قضايا وآراء

دروس من حرب لبنان

| أنس وهيب الكردي

لسبب ما عدت إلى مكتبتي لأطالع عدداً من الكتب التي روت أسرار حرب لبنان التي اشتعلت نارها عام 1975، وبالأخص مرحلتها الأشد تعقيداً ما بين أزمة زحلة عام 1981، مروراً بالاجتياح الإسرائيلي في العام التالي، وصولاً إلى انتخاب إلياس الهراوي رئيساً لبلاد الأرز عقب توقيع اتفاق الطائف.
قد تبدو العودة إلى الماضي ترفاً بينما يواجه المرء معضلة حاضر معقد، ومستقبل غامض مفتوح على اتجاهات متناقضة، خصوصاً إذا كان الحدث المختار غير مفضل للكثيرين كحرب لبنان، التي كانت سنوات عقدي السبعينيات والثمانينيات مسرحاً لها، والأرجح لأن الكثيرين رسخ في ذهنهم أن تلك الحرب لم تكن أكثر من مجرد صراع أهلي بين اللبنانيين، متجاهلين أن لبنان الصغير في حينه، كان مسرحاً لصراعات أخرى لا تقل خطورة؛ من الصراع العربي الإسرائيلي، إلى التنافس العربي العربي المتقاطع أبداً مع الحرب الباردة بين الجباريين النوويين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وأخيراً الصراع العراقي الإيراني إبان حرب ثماني السنوات، وفي هذا الملمح بالذات يمكن للمرء أن يجد تشابهاً في بعض التفصيلات ما بين الأزمة السورية، والحرب اللبنانية.
فالصراع السعودي الإيراني المستعر في طول الشرق الأوسط وعرضه له تعبيراته السورية التي تجلت مؤخراً في عزم الرياض على دعم خطط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في شرق سورية، على حين اتخذت روسيا من المنصة السورية قاعدة لعودتها لاعباً فاعلاً في شؤون المنطقة، من دون أن تخفي طموحها في تقليص الدورين الأميركي والأوروبي بالمنطقة. وإلى وقت قريب كانت سورية الساحة الأكثر وضوحاً للمنافسة بين السعودية ومصر، من جهة، وتركيا من جهة أخرى، قبل أن تندلع أزمة قطر. وشرارات العداء المستحكم ما بين طهران من جهة، وتل أبيب وواشنطن من جهة ثانية، تتطاير أكثر ما تتطاير في الحقل السوري، مهددةً بإشعاله من جديد. تفاعل هذه الصراعات يمنع وسيمنع، إرساء معادلة حل مستدام، قابل للحياة من دون معجزة أو انقلابات في مواقف عواصم القرار الدولي والإقليمي، تماماً كما كان الحال في لبنان قبل ثلاثة عقود.
في تلك المرحلة الشديدة الأهمية من الحرب اللبنانية ازدادت حدة التدخلات الدولية والإقليمية، ترافقاً مع وصول الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان إلى سدة البيت الأبيض عام 1981. لقد أطلقت إدارة ريغان دينامية تصعيدية ما لبثت أن طالت جميع أوجه العلاقات الدولية، وأشعلت فتيل ما يسمى بـ«الحرب البادرة الثانية»، ولم يكن لبنان بعيداً عن أتون التصعيد بل كان في قلب النار. تفجرت في هذا البلد سلسلة من الأزمات؛ ابتداءً من معركة زحلة والتي تصاعدت في خضمها أزمة صواريخ سام السورية، فالاجتياح الإسرائيلي صيف عام 1982، والمواجهة السورية الإسرائيلية الأميركية في العام التالي. كسر هذا الاجتياح، ظهر منظمة التحرير الفلسطينية وحشر الوجود السوري في مناطق سهل البقاع بعيداً عن بيروت. توجت العملية التي أطلق عليها الإسرائيليون اسم «سلامة الجليل»، تمويهاً، بانتشار قوات متعددة الجنسيات على الأرض اللبنانية. لكن الاجتياح الإسرائيلي، المدعوم أميركياً، حرّك ردود فعل توازنية مضادة لبنانية، سورية، إيرانية وسوفيتية، أسفرت عن عدد من التطورات، أولها دحر الاحتلال الإسرائيلي إلى شريط أمني جنوب لبنان، ثانيها، خروج القوات المتعددة الجنسية من مناطق انتشارها في بيروت وحولها وعودة عناصرها إلى بلادهم، وهو مكسب لا غبار عليه صب في صالح موسكو ، وتمثل ثالثها في تثبيت موقع لبنان في قلب معادلات الصراع العربي الإسرائيلي. وأخيراً، تبرعم النفوذ الإيراني في بلاد الأرز بالترافق مع بروز فاعل جديد في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي: حزب الله. نقل الاجتياح الإسرائيلي للبنان التعاون السوري الإيراني في الشرق الأوسط من الخليج إلى لبنان، وهو الذي فرضته تداعيات الحرب العراقية الإيرانية، والتنافس الذي لا ينتهي بين دمشق وبغداد.
في حينه، كان للمسرح اللبناني دوره الذي لا غنى عنه كصندوق بريد وساحة تقاطع مصالح، أدت إلى صفقات بين أطراف يستحيل تصور اتفاقها، لكنها صفقات ظلت تكتيكية ولم تؤد إلى اتفاقات دائمة ترسي استقراراً في لبنان أو المنطقة.
ثلاثة أحداث على صعد دولية، إقليمية، ولبنانية، مختلفة، قادت إلى اتفاق الطائف لعام 1989، أولها انكفاء السوفييت إلى داخل حدود بلادهم ما حرم دمشق من حليفها الدولي الكبير، ثانيها، انتهاء الحرب العراقية الإيرانية وبروز العراق كمنتصر ما أقلق الولايات المتحدة وبعض القوى الشرق أوسطية (خصوصاً سورية والسعودية)، ثالثها، انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل واندلاع سلسلة مواجهات بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية. تكرس اتفاق الطائف بسبب حدث لا يصدق وقع بعد عام من إقراره، ألا وهو غزو العراق للكويت والذي استثار رد فعل عسكري أميركي دعمته دمشق.
بالمثل، عمل دونالد ترامب بعد فوزه بانتخابات الرئاسة الأميركية خريف العام 2016، على الإطاحة بقواعد اللعبة بين واشنطن وطهران، والتي صكتها إدارة سلفه باراك أوباما، فأعلن الرئيس الخامس والأربعون للولايات المتحدة انسحاب بلاده من «خطة العمل الشاملة المشتركة» المتعلقة ببرنامج إيران النووي، وبذلك حقق هدفه في تصعيد حدة التوتر مع إيران. في ذات السياق، أطلق ترامب يد إسرائيل، بهدف تحجيم، إن لم يكن تحطيم، الدور الإيراني في سورية. كما أطلق يد السعودية لتحقيق الغاية ذاتها في اليمن. ولا شك بأن إدارته تعد العدة من أجل دق إسافين بين الدول الثالثة الضامنة لمسار أستانا (روسيا، إيران وتركيا)، وتشكل أنقرة الهدف المفضل للإدارة الجمهورية.
مستندةً إلى غطاء إدارة ترامب، تجرأت إسرائيل على توجيه ضربات في العمق السوري، عاملةً على استدراج ردود فعل من الحكومة السورية وحلفائها تسمح لها بافتعال مواجهة في توقيت يتناسب مع رغبتها. تتشابه هذه الضربات مع النمط، الذي اتبعته حكومة تل أبيب خلال أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي في لبنان، والتي وصلت ذروتها في الاجتياح عام 1982.
وكما نشأت مقاومة ضد القوات المتعددة الجنسيات وجنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، أطلقت عشائر سوريّة مقاومة ضد قوات الجيش الأميركي المتمركزة من ضمن «التحالف الدولي ضد تنظيم داعش» شرقي البلاد.
ولأن الهدف من إيجاد نقاط التشابه بين حرب لبنان وأزمة سورية، لا يبغي الحفر في دائرة الماضي، بل ينصرف إلى بناء إطار قادر على استشراف مستقبل ما يزال غامضاً بكل المقاييس. عندها، يكون ممكناً، توقع استمرار الأزمة السورية نظراً لأن العوامل الصراعية الدولية والإقليمية لم تستفد بعد، ولأن الوضع الدولي والإقليمي قد يتصاعد بشكل كبير للغاية تاركاً انعكاساته الأكبر على سورية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن