المرأة والواقع
| د. نبيل طعمة
نسمع -نحن معشر الذكورة- بين الفينة والأخرى من يخرج علينا ليقدم لنا نظريات، آخرها تمكين المرأة التي تعني في الحالة الاجتماعية مفهوم المساواة، وهذا إن دلَّ على شيء فإنه يعني أن المرأة مازالت مهمَّشة بدراية منها أو من دونها، لحظة أن تقبل هذا المفهوم، الذي يشير أيضاً إلى هضم حقوقها، وكأن بها مخلوقاً ناقصاً، وجدت لغايات لا ترقى إلى مستوى أنها نصف المجتمع، ومسؤولة عن خلق وتربية نصفه الآخر، هذه النظرة المسكونة ضمن الموروث الثقافي، تقاليد وعادات وفهم خاطئ لنظرة المجتمع إليها، فهي دعوة أجدها من الأهمية بمكان للمرأة والرجل، كي نتجه بعجالة مرفقة بالتأني للحديث والبحث عن أصدقائها وتحديد أعدائها، إن كان لها منهم نصيب، الذين يسعون دائماً لتعنيفها ووصفها بالنقص العقلي والديني، ناهيك عن إذلالها والتكبر عليها وسعيهم للسيطرة عليها بقسوة وتهكم، وإيمانهم بأن أعبر الحقب المستحدثة بعد أن نشم عطرها القادم من تأنقها، النساء عدد والرجال مدد، وأكثر من ذلك اعتبارها جارية ودائرة شرعية.
قبل أن نخوض غمار ذلك، دعونا ننظر إليها، ونسمع ونقرأ ونحسّ ونلمس مستجدات أمورها وتطورها عبر الحقب المستحدثة، بعد أن نشم عطرها القادم من تأنقها الذي أصبح أكثر من ضرورة وحاجة، هذا الذي وجه النظر لحركتها الناشطة، ودخلت من بوابات الحياة التي فتحتها لها ذهنية الذكورة المتعلقة بها، وحينما نتابع وجودها بين العمل والمنزل والحقل، ونرقب مرورها من أزمان عمرها الثلاثة التي أمست وأصبحت متلازمة، لا نستطيع التفريق بينها، والسبب جمال الأغلفة والأقنعة والتكنولوجيا الحديثة التي نشطت بغاية خدمتها، ولفتت إليها الأنظار، فهي لا تنافس الذكورة؛ بل تنافس ذاتها وجنسها الأنثوي.
دعونا نسأل عمّن يصمم ويخترع أزياءها، ومن يصيغ بروتوكولات حضورها وأناقتها، واختيار عطورها، وتهذيب سلوكها، من يعلمها فنون الرقص، الفالس والسلو والتانغو والتشاتشاتشا، ناهيكم عن الشرقي، ودخولها عالم الفنون من أوسع أبوابه، والحركات والسكنات، واعتبار كل ذلك انتصاراً للمرأة التي لا تبدو قضيتها قضية الوصول إلى حقوقها المهضومة، أو مكانتها المعدومة، أو المساواة مع الرجل غير المأمولة، والبحث عن إنسانيتها المهدومة، وإعلاء شأن كرامتها المنكوبة، إنما هي أبعد من ذلك بكثير، إنها تتجلى في أولئك المستثمرين في وجودها، الذين يضغطون بغاية إبقاء استغلالها، وعلى أنها سلعة تباع وتشرى، أو أن تبقى تابعة وفكرة نكرة، مكانها الزواج ودور البغاء، أو آلة لا تعرف الاستقرار، رغم اختلاف الذكور حتى اللحظة حول توريثها وتملكها واعتلائها منابر العلم والقانون والسياسة، وحول كونها إنساناً ذات نفس وروح خالدة كالرجل أم لا؟ وهل تدخل الجنة والملكوت أم لا؟ وهل يحق لها أن تترقى في المناصب الدينية، أو تصحّ منها العبادة أم لا؟ وهل هي أحبولة الشيطان؟ وأنّ لا قصاص على الرجل في قتلها أو ضربها أو هجرها في المضجع أو إبعادها عنه، فهل هي حقاً مهضومة الحقوق؟
في مثلث القداسة الأصوات مازالت تعلو أنقذوا المرأة، انصروها على أعدائها، وهل يستطيع أحد من الذكورة أن يحدد من أعداؤها؟ وإن حاولنا تحديدهم، فهل يكون منهم الدين والشرف والعفة والغيرة والحياء والأمومة والعمل؟ وهل الذين ينادون بالانتصار لها غايتهم تحقيق رفعتها، أم إعادتها إلى الوراء، لكي يبقوا سادتها والقيّمين عليها؟ وإني لأعتقد أن أهم عدو للمرأة مسكون في ذاتها، وحتى اللحظة لم تقدر على مواجهته ألا وهو فهمها لمنظومة التحرر وأدبياته، وللعلم ومستلزماته، ربما وأنا أخطُّ هذه الكلمات يقف معي الكثرة أو الندرة، أي إنَّ هناك أيضاً من هو على تضاد مع هذه الرؤية.
لماذا ارتبطت صيغ المرأة بالتكوين والحمل والولادة والدعارة والعهر والعشق والهوى والغرام والحلال والحرام والحجاب والرهبنة؟ وغدت جميعها مثل الثوابت الحياتية التي من دونها تشعر الذكورة أن هناك نقصاً وخللاً، هل يصح أن نقول: إن وراء كل جريمة امرأة، والتفتيش عنها عندما تقف خلف صناعة عظماء الرجال توصلهم إلى القمم، فإن خانوها دفعت بهم إلى الهاوية، أو تعيده إليها، وهدفها أن تولد من جديد، أو أن يموت في ذهنها إلى الأبد، فالمرأة وضمن جميع كتاباتي أذكرها بالمسالمة والباحثة عن السلم والأمان إلا أن تجرحها، وهنا تكون الكارثة التي توقظ بداخلها الأفعى النائمة، فإما أن تأخذ بالرجل، أو تأخذ بنفسها إلى حواف الهاوية.
من أين ظهر القديسون والقادة الساسة والاقتصاديون والعسكر والاجتماعيون والفلاسفة والعلماء؟ من البذرة أم من الأرض التي تجسد ذاك الكهف المظلم القابع بين ثناياها والتصورات التاريخية التي قدمت صورة الإنسان الهمجي الأول الخارج منها، وإذلالها لآدم لحظة عدم بلوغ النشوة؟ ألا يجب أن تتفوق المرأة من ذاتها على ذاتها أولاً؟ ألم تدرك بأن شعار المساواة هو حالة وهم كبرى غايتها إبقاء المرأة في حالة لهاث مستمرة.
الواقع يدعونا للعمل والعلم، وكي تصل إلى العدالة عليها أن تسعى للتشريع القانوني الاجتماعي مع مراعاتها للفصل بين العمل والواجبات واحترام تبادلها مع الرجل؛ أي أن تسعى لتوظيف حضورها البيولوجي وعواطفها كأنثى ومكانتها العقلية، وأقصد ملكاتها الفكرية والعملية، إن أرادت التساوي الحقيقي لا الوهمي، وأن تتجرأ وتكتب وتتحدث هي من ذاتها عن آلامها وأحلامها، وألا تستسلم للعداوات المسكونة بين النساء، وألا تقتدي بالمعقدات من جنسها اللائي ذهبن إلى الاسترجال أمثال نوال السعداوي، أو إلى اللاهثات خلف الرجال من مثل غادة السمان، وألا يكن لهنَّ دليل، بل أن يتشجعن ويعترفن أنهن قبلة الرجل؛ أي كانت مرتبته أو رتبته فقيراً أم غنياً، قائداً أم عبثياً، فها هي تقيم دعوى على ترامب رغم أنها داعرة، وقبله أوصلت كلينتون إلى حلف اليمين وهو كاذب، بعد أن واجهه القانون بسؤاله على السترينغ، وبيرلسكوني ومطاردته للقصر وما خفي أعظم.
من كل ذلك أصل إلى أن الرجل لا يغريه شيء سوى المرأة، فمهما جمع من مال وجاه، يبحث بينهما عن المرأة التي يجد فيها تكوينه، يبنيه معها، أو تهدمه عليه، فإن لم تتجه لفهم جوهرها وتطويره فستبقى صورة يتطلع الرجال لاقتنائها والعبث فيها، لكونها جاهزة، وفي متناول اليد، فالذي مرَّ بها من عقدة أوديب؛ حب الابن لأمه، إلى الملك لير، وحب البنت لأبيها ووراثتها للعروش واحتلالها مراتب الآلهة وانهيار عظمتها التي عاد الرجل يرسمها لها على هواه، كل ذلك يدعو إلى نبش وعيها التاريخي، كيف كانت، وإلى أين وصلت الآن؟
ندقق فنجد أن عالم الشمال عمل كثيراً على تطوير المرأة، وصنع كما ذكرت في مقدم حديثي هذا كامل مستلزمات التحضر والفتنة، إلا أنه من الناحية الأخرى استعبدها أيّما استعباد، والشمال في جنس اللغة ذكر، والعقل ذكر، تحمله الأنثى أيضاً، فهل تعمل بعقلية الذكر، وتتصرف بمقتضيات أنوثتها؟
هل هي حالة إبداع وخلق وإنتاج لها ولجنسها الآخر؟ أم إنها ستبقى حالة إغواء وإغراء تدعي التحرش والاغتصاب والسبب تعرفه ذاتها؟ إنها المرأة، حاولتُ أن أكون إلى جانبها مصارحاً ضمن واقعية أدعوها للتفكر فيها.