ثقافة وفن

الخليفة الذي أثار الجدل في التاريخ وفي الدراما … هل نجح مسلسل «هارون الرشيد» بتقديم رؤية جديدة عن عصر ذهبي من تاريخ الخلافة؟

| سوسن صيداوي

كثُرت الانتقادات، والفخ الأكبر هو المقارنة، فمنها يأتي الظلم في التقليل من أهمية الجهد المبذول من الكل على السواء. اليوم ومن عمق المنافسة، يُعرض مسلسل «هارون الرشيد» الذي سنتطرق إلى تفاصيله كاملة. ولكن ما أحب التركيز عليه أن كلاً من المخرج والكاتب مع طاقم الممثلين، صرحوا في وقت سابق بأن المسلسل يقدم رؤية جديدة أو يتحدث عن حياة هارون الرشيد من جوانب مختلفة. واليوم ومن خلال المتابعة أصبحنا قادرين على القول إن المسلسل تاريخي ولكن على غير ما اعتدناه سابقا، بما يحتويه من خطوط عاطفية درامية قادرة على كسر الجمود الوارد في هذه النوعية من المسلسلات، هذا إضافة إلى أنه يقدم قراءة مختلفة للتاريخ، من خلال دراسة للحالة السيكولوجية لكل شخصية، وبالمعنى الأدق النسخة الجديدة من «هارون الرشيد» تسعى إلى تقديم الشخصية بحالتها النفسية، وقد استند كل من الكاتب والمخرج إلى علم النفس المعاصر لتقديم أفعال الرشيد أو ما نُسب له، مع مبررات قيامه بها، على اعتبار هذه الشخصية الجدلية لم تكن دموية بل محبة للعلم والمعرفة، كما يتناول ازدهار الثقافة في ذاك العهد العباسي في العديد من المناحي ومن أبرزها: الشعر والغناء وإظهار صورة المرأة العربية فاعلة بطريقة راقية على نحو غير مسبوق في التاريخ العربي. هذا وفي جوانب مهمة من العمل تُستعرض الصراعات والمؤامرات الدائرة حول السلطة، بالاعتماد في هذه المرحلة الزمنية على المزج بين التوثيق وهامش من الخيال، من خلال شخصية الرشيد ومن حوله، وبالدخول إلى كواليس الحكم. إذاً الحديث يطول وإليكم ما أمكننا استدراكه والإحاطة به من أدق التفاصيل.

كادر المسلسل

في أوج الإنتاجات العربية وعلى الخصوص السورية والمصرية، كان ينتظر المشاهد ما يتحفه من المسلسلات التاريخية الناطقة بالعربية الفصحى، ولكن مع كثرة وتنوع المحطات إضافة إلى توجهاتها، شحّت الإنتاجات للمسلسلات التاريخية. ولكن في حاضرنا وفي قمة الزحام الرمضاني الدرامي، يتابع المشاهدون والمهتمون والنقاد على السواء مسلسل «هارون الرشيد» على العديد من المحطات العربية. المسلسل يعتبر من أضخم الإنتاجات الدرامية المحاكية للتاريخ على مرّ الدراما العربية، كما يأتي كظاهرة سواء على صعيد الفكرة أو تكاليف الإنتاج، لأنه يعتبر الأضخم في عام2018، ويعود إلى شركة (غولدن لاين) ديالا الأحمر ونايف الأحمر. على حين الإخراج لعبد الباري أبو الخير، سيناريو عثمان جحا. وخلال ثلاثين حلقة يجمع كوكبة من أهم نجوم الوطن العربي، وعلى سبيل الذكر لا الحصر في المشاركة السورية: قصي خولي، كاريس بشار، عابد فهد، سمر سامي، كندا حنا، نضال نجم، ديمة بياعة، طلال مارديني، ديمة الجندي، سحر فوزي، علا ياسين، زيناتي قدسية، هشام كفارنة، إسماعيل مداح، جابر جوخدار، غسان عزب، جمال العلي، أدهم مرشد. ومن الأسماء العربية المشاركة: ياسر المصري، عبد المحسن النمر، حبيب الغلوم، أسيل عمران، نادرة عمران، نور صعب…. والقائمة تطول، بينما تولى الإشراف المنتج الفني حمادة جمال الدين، والموسيقى التصويرية لرضوان نصري. كما تجدر الإشارة إلى أن عمليات التصوير تمت في قصر السراب بمنطقة (ليوا)، وأخر المشاهد في «جزيرة السمالية» في أبو ظبي.

موجز الأحداث
يؤدي الشخصية الرئيسية «هارون الرشيد» النجم السوري قصي خولي، في بطولة مطلقة مجسدا شخصية الخليفة العباسي الأشهر ومحاولا العمل-مع المجموعة-على تقديم صورة مختلفة وقراءة مغايرة للشخصية، من جوانب معينة لا تتفرد بها السياسة والسلطة فحسب، وإنما كأنموذج للرجل العربي، الرجل المنفتح المتحرر والمندفع لدعم العلم والمعرفة، إضافة إلى تناول سياسته في قصره وكيفية إدارته لدولته المترامية الأطراف، في أحداث تقسم إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل وصول هارون الرشيد إلى السلطة، حيث يستدعيه أخوه الهادي-جسد الشخصية النجم عابد فهد- كي يعزله، لكن تدّخل الوالدة الخيزران- قامت بالشخصية الفنانة القديرة سمر سامي- حال دون رغبة الهادي في الخلافة. كما يصّور المسلسل المرحلة الثانية: التي تبوأ خلالها هارون الرشيد العرش إلى حين وفاته، ومعها كل ما عاشه الرشيد من صراعات سياسية وعاطفية، وتصدّيه للمؤامرات والدسائس التي كانت تحاك عليه، مع رصد أوج الحضارة العربية وتألقها في عصره وعلى الصعد كافة.

خطوط درامية عاطفية
يعالج المسلسل الفترة الزمنية بين 170 و185 للهجرة، أي 15 عاماً من حياة هارون الرشيد. والأمر تطلب من الكاتب- عثمان جحا- جهداً استمر قرابة السنة باحثا في المراجع والوثائق حول هذه الشخصية الجدلية في تاريخ العرب والإسلام، مازجا الخيال مع الحقيقة في الكثير من المفاصل والخطوط الدرامية العاطفية، والتي عادة ما تجذب المشاهد وخاصة في الأعمال التاريخية التي تتصف بالجمود، إن لم يسع الكاتب إلى إدخال بعض المعايير الدرامية القادرة على جذب الجمهور. وعلى ذكر العاطفة شهدنا صراعات بين النساء اللواتي حاولن الحظي بقلب الرشيد، فمثلا نرى العلاقة العاطفية بين هارون وزوجته زبيدة (كاريس بشار)، وسعيها واستعلامها عن كل الجاريات اللواتي يختارهن الرشيد، إلى جانب تدخلها في الصراع لتولية ابنها الحكم ودفعه لاعتلاء العرش في فترة مرض أبيه الخليفة، وفي هذا المفصل إشارة لواقع حياة هارون الرشيد وما يرويه المؤرّخون عن حكاية طلاقه من زبيدة في ظروف غريبة، ويدركه المشاهد من خلال الهجر الصريح لها في تتابع الأحداث.
كما أشار المسلسل إلى العلاقة العاطفية التي تربط العباسة-كندا حنا-أخت الرشيد، بجعفر البرمكي-عبد المحسن النمر- المقرب من الرشيد ورفيقه في مجالس الأنس، مثل العباسة التي تكرر الحديث في سياق المشاهد بأنها صديقة الصبا والشباب مع هارون ومجالس الشعر والأنس، وحول مصيرها-رغم حزم ملامح الرشيد بعكس عاطفته الكبيرة تجاهها والواضحة في حديثه- نجد في المسلسل إشارة إلى القصص والروايات التي أحاطت بمصير العباسة بأنها كانت حاملاً من جعفر وقتلها الرشيد مع وليدها ودفنها في القصر، ولكن يؤكد المؤرخون عكس الروايات، حقيقة أن العباسة عاشت عمرا أطول من عمر الرشيد وتوفيت بعده بزمن طويل.
إذاً ثلاثون حلقة ليست بكافية لاحتواء كامل الفترة الزمنية، ولكن المسلسل جَهد في استقطاب كل ما أمكن وما يثير دهشة واهتمام المشاهد من أحداث وصولا حتى إلى حكايات (ألف ليلة ووليلة) من خلال لقاء الخليفة الرشيد بالجارية ضياء (علا ياسين) في الإسطبل أثناء قيامها بتنظيفه، واستراقه للسمع وهي تقص حكاية لفرس(العباسة) التي تهتم بها، ومع قصّها للحكايات له نشأت قصتهما الخاصة في جو من العواطف الدافقة أعادت الخليفة إلى مواطن نفسية وعاطفية كان افتقدها منذ زمن، في غمرة إلحاح المغنية ذات الخال(نور صعب) لإثبات حبها لهارون، وبعد يأسها لابتعاده عن مجالس الأنس، طلبت منه مغادرة القصر إلى قصر آخر.

من هنا انطلق هارون 2018
مسلسل «هارون الرشيد» يرصد حقائق لا يمكن الاختلاف عليها، فمن يبحث في العصر العباسي-الذهبي-عن العلم والعلماء فسيجد كبار علماء الإسلام فيه ومن أسماء أئمة المذاهب الفقهية:الإمام أبو حنيفة، والإمام مالك، والإمام الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل. إضافة إلى الأعداد التي لا يمكن إحصاؤها لعلماء التوحيد والتفسير والحديث والفقه. هذا وفي الأمور الثقافية، ترجمت في هذا العصر روائع كتب الثقافة والسياسة والفكر إلى اللغة العربية وبرزت أسماء كبار علماء العربية مثل: سيبويه والمبرد والأخفش والكسائي وأبي علي القالي. واشتهرت مدرستا البصرة والكوفة في النحو واللغة، ومكتبة دار الحكمة التي كانت أكبر مكتبة في العالم وتضم مختلف الكتب بمعظم اللغات الحية. أما بالنسبة لما يدور من روايات ترجُم المجتمع العباسي بما كان يدور به من فسق ومجون، اكتفى المسلسل في عرض لانتشار الحانات التي تكثر فيها الجواري والمغنيات، في مجتمع نفوذه يحكم أكثر من نصف العالم ويختلط في عواصمه وحواضره الكبرى مختلف الجنسيات والمذاهب والثقافات والأذواق، ومن هنا نعود إلى شخصية «هارون الرشيد» فالمتواتر الثابت أنه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، وامتدت خلافته إلى سنة 193 للهجرة، ويقول ابن الطقطقي: «كان الرشيد من أفاضل الخلفاء وفصحائهم وعلمائهم وكرمائهم، وكان يحج سنة ويغزو سنة، كذلك مدة خلافته إلا سنين قليلة، وكان يصلي في كل يوم مئة ركعة، وحَجَّ ماشياً، وكان إذا حجَّ حجَّ معه مئة من الفقهاء وأبنائهم… ولم يُرَ خليفة أسمح منه بالمال، وكان يحب الشعر والشعراء ويميل إلى أهل الأدب والفقه».
هذا وفي الختام لا نعرف أن كان المسلسل سينتهي بما جاءنا من صفحات التاريخ حول الاتفاق الذي جمع به هارون الرشيد أبنائه الثلاثة: الأمين والمأمون والقاسم في الكعبة المشرفة، عندما عقد بينهم اتفاقا أشهد عليه عليّة القوم، وهذا الاتفاق عُرف فيما بعد بـ(اتفاق الكعبة)، ومفاده أن الخلافة من بعد هارون ستؤول إلى الأمين ومن بعده للمأمون…. إذاً الحلقات الأخيرة هي من ستخبرنا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن