اقتصاد

الترجّل من «الإسعاف»

| علي محمود هاشم

ليست أمورنا على ما يرام، فقياساً بالعطب البنيوي الذي تعانيه نواظم مستقبل اقتصادنا الوطني، معطوفة على عطب مخيلة صياغتها، بتنا أشبه بمن يعلن جهوزيته لخوض غمار إعادة الإعمار، وفي يمينه «مقشّة وكريك»!!
يتلخص كنه الاستثمار في آليات التمويل والتحفيز، وكلا الأمرين يعانيان تورّماً مزمناً جراء الصفعات الشعاراتية المتتالية التي تلقياها، ثمة شواهد لا حصر لها في هذا الجانب، فمصارفنا، هذا الجدث الذي اتخذته مستودعات المال الوطني على عمق أمتار من مسرح نشاطها الطبيعي، كان لها أن تدور دورة تنموية كاملة فيما لو حظيت أموالها بـ(نافخٍ في الصور).
مؤخراً، وعقب سلسلة سردياتها الطويلة عن (أهبّة الجهوزية)، ذهبت الحكومة إلى استمزاج فكرة البحث عن هيكلة جديدة للمصارف العامة، ورغم ما قد يثيره هذا الطراز المكرر من التعابير باعتباره أحد أطوار (نوّاس الشعارات) وصدى ممجوج لحركته البلهاء ضمن الخواء، فلا يمكن تجاهل الأمر، ليتجدد الحنين إلى الإدلاء بالدلو: يتطلب أمر المصارف ابتداع معادلة لا غنى عنها في تفكيك التناقض ما بين المأمول في التوسع المصرفي المطلوب وبين الانكماش الطارئ، ومن ثم حل شيفرة التضارب بين البعدين التنموي والنقدي لأسعار الفائدتين المدينة والدائنة.
حديث المصارف لا يحتاج مزيداً من الردح، فما يتسربل عن استعداداته لا يفتأ يتلولب كزوبعة في فنجان، أما قانون الاستثمار العتيد، وتصوراته الفقيرة حول المناطق الحرة، أقلّه بما (يليق) بإفصاح الحرب الصريح عن نيتها الاستحواذ على خلاصة جغرافيتنا كمركز إمداد ومرور إقليميين للسلع والطاقة من وإلى الجهات الأربع، فلا يزال أسير (منكر ونكير) يتدربان على تقليب (حسنات وسيئات) التحفيز!.
شيء ما يتوجب به أن يحدث، يصعب تصوره لدى غير المختصين، لكنه لا يحدث، وفي الواقع، فلو كانت ستمطر لكنّا رأينا (برقها)، هذا أمر لا خلاص منه، إذ إن الفارق بين جهوزيتنا لإعادة الإعمار من عدمها، يجرّ وراءه خياراً وطنياً بين أن نكون شركاء لدول عظمى اقتصادياً باتت تتناول بجدية طرائق بناء مستقبلنا الاقتصادي في قمم زعمائها، وبين أن نتحول بقرار عطالتنا الذاتية، إلى حدائق خلفية لاقتصاديات دول ليس لديها اقتصاد كالأردن ولبنان، أو توابع لدول تابعة طور القهقرى كتركيا، أو (لا دول) كإقليم كردستان؟!.
في الجوار المتحفّز هذا، هنالك من يتقاسم -علناً- الجغرافية السورية من خارج الحدود، وفي الواقع، ولو أن أحداً من هؤلاء تناهى إليه القليل من رؤيتنا الواثقة لمستقبل جغرافيتنا الوطنية، فلكان قال كلاما في التعاون حول شراكات التجارة وإعادة الإعمار شرق المتوسط، أو كان ليصمت!.
فمن يراقب تطلعات الجوار وخططه، يدرك تماماً بأننا الوحيدون المتأخرون عن الجدية في تناول (إعادة إعمارنا)، لا بل والأقل بينهم إيماناً بقدراتنا وواجباتنا، فيما وصلت بعض نقاشاتهم حدّ توصيف الاحتياجات والأدوار والمراحل، فيما ذهب آخرون لوضع آليات التمويل وتقاسم الأرباح وسط محاولات تسلل ممنهجة للأموال الخليجية إلى القطاعات الحيوية كالنقل والطاقة والترانزيت والمرافئ.. وحدنا فقط من لا يزال يقضي وقته في سيارة «الإسعاف» العزيزة، جيئة وذهاباً؟!.
ميتافيزيقيتنا الخاصة للإعمار، المتعمشقة بأبواب «الإسعاف» إياها، وصلت نهاياتها وبات من الضرورة نقل تطلعاتنا المستلقية على محفّتها الضيقة، منعاً لسقوطها أسفل جدثها المتربص!، إلا أن شيئاً لا يبشر بذلك، فخلال الأيام القليلة الماضية برزت جولة تمطمط جديدة للخطاب الحكومي، وبعض النظر عما للأمر من علاقة بما يشاع عن تغيير حكومي ما، فإن كاريكاتورية بعضه سوّلت لنفسها إلصاق تهمة (النهضة) بظهر الاقتصاد الوطني راهنا!، لا بل ذهبت إلى الاستمجاد بـ(انتعاش التصدير) ودوره المحوري في ضبط سعر الليرة؟!
في الواقع، لم يكن ينقصنا سوى مديح التصدير كيما تتوثب المقارنة مع الاستيراد والتهريب، ولذلك، ورغم عدم خلو الخطاب المتجدد من ومضات مشجعة كعدم إتيانه على أسطورة (صادراتنا التي تجتاح القارات الخمس)، فهو أقل بكثير مما تتطلبه إشاعة الطمأنينة، لا بل يعزز ما يتوجب إقرارنا به: بعض حكومتنا الحالية خسرناه كمسعف إلا أننا لم نكسبه كمعالج متمرس بعدما اقتصر دوره خلال السنوات الأخيرة على نقل جثة الاقتصاد.. وتقليبها ذات اليمين وذات الشمال.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن