مسارات التصادم أرجح
| أنس وهيب الكردي
تتحرك موسكو وواشنطن نحو حلحلة علاقاتهما، الإشارات على هذا التحرك عديدة، اجتماع رئيسي أركان البلدين في هلسنكي إشارة أولى، واللقاء الذي يجري التحضير لعقده بين وزيري خارجية البلدين في سنغافورا إشارة ثانية، على حين تنعقد خلف الكواليس محادثات من أجل عقد قمة بين الرئيس الروسي فلاديمير بويتن ونظيره الأميركي دونالد ترامب.
اتفق هذان الرئيسان على تكليف وزيري خارجيتهما سيرغي لافروف ومايك بومبيو بتنظيم «حوار مهني» من أجل «تطبيع أجواء التنسيق بين روسيا والولايات المتحدة»، واللافت في هذا الصدد أن مباحثات رئيسا هيئة الأركان الروسية فاليري غيراسيموف والأميركية جوزيف دانفورد تجاوزت القضايا العسكرية مثل «تفادي الحوادث العرضية» بين القوات الروسية والأميركية في سورية، إلى مناقشة مختلف سبل تسوية أزمتها، حيث أجمعا على «أهمية عودة الوضع إلى الاستقرار في سورية في أسرع وقت ممكن».
مع ذلك، وكما في أي مفاوضات هناك مآزق وتقلبات غير منظورة؛ فلقد سحبت واشنطن موافقتها على اجتماع نواب وزراء خارجية الولايات المتحدة وروسيا والأردن، لإقرار الاتفاق الجديد الخاص بجنوبي سورية، ما أدى إلى تعثر العمل الدبلوماسي المكثف لإيجاد حل يكبح جماح التصعيد في منطقة تهدد بإشعال فتيل توتر إقليمي واسع، وبالإمكان تصور أن لقاء غيراسيموف دانفورد لم يكلل بالنجاح الكامل، إذ لم يكد اللقاء ينتهي حتى صدرت عن وزارة الدفاع الروسية تصريحات عنيفة تجاه الولايات المتحدة، وحذر الناطقون العسكريون الروس من افتعال المسلحين «استفزازاً كيميائياً» في دير الزور كذريعة جديدة لتبرير قصف جوي للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة على أهداف سورية وتبرير هجوم المسلحين على قوات الجيش السوري على الضفة الشرقية لنهر الفرات، كما ألمحوا إلى تقاعس القوات الأميركية عن مواجهة إرهابيي تنظيم «داعش» في سورية، ودعمها لهجومات المسلحين على قوات الجيش العربي السوري، مثل الهجوم الذي جرى إحباطه أمس الأول على مدينة تدمر، والذي أكدت مصادر عسكرية روسية انطلاقه «من منطقة التنف الخاضعة لسيطرة الولايات المتحدة».
بكل الأحوال، ستظل العلاقات الروسية الأميركية خلال الأشهر القليلة القادمة محكومة برغبة بوتين وترامب للتهدئة والتطبيع، وإن كانت ستشهد تصاعداً في لهجة التصريحات المتبادلة، لكن، بخلاف العام الماضي عندما أدى كل تقارب روسي أميركي إلى تقارب مقابل تركي إيراني، فإن من غير الوارد أن تتقارب الرؤى بين تركيا وإيران في المرحلة المقبلة.
لقد استخدمت أنقرة إيران كورقة ضغط على واشنطن من أجل تنفيذ طلباتها الخاصة بإعادة النظر في العلاقة بين التحالف الدولي و«قوات سورية الديمقراطية – قسد» التي تقودها ميليشيا «وحدات حماية الشعب» الكردية، وبالنسبة لإيران أثمرت العلاقة البرغماتية مع تركيا عن تعقيد عمليات واشنطن في المنطقة، وتوسيع ساحة المناورة الإيرانية في سورية والمنطقة، والأهم أنها مثلت مدخلاً لمشاركة إيران في إنتاج مسار استأنا، الذي بوأ إيران مكانة سامية في عملية تسوية الأزمة السورية.
مع انتقال العلاقة الأميركية التركية من الصراع إلى التعاون الصعب حول منبج وربما ما بعدها، ستخف حاجة تركيا إلى الورقة الإيرانية، وستعود تركيا إلى مواجهة النفوذ الإيراني على بعد 100 كيلو متر من حدودها في جنوب شرق إدلب وجنوب غرب حلب وأيضاً جنوب شرقها، بناء على هذه الحسابات ستعمل أنقرة على الاستفادة من أي تقارب روسي أميركي يلوح في الأفق لتطبيع الأوضاع حول مناطق منبج وتل رفعت وعفرين، ووضع آلية لدمجها في المناطق التي سيطرت عليها سابقاً عبر عملية «درع الفرات» أي خط جرابلس الراعي إعزاز.
السؤال الذي يشغل بال الكثيرين هو: إذا ما كان الرئيس بوتين يعتزم الذهاب إلى القمة الأميركية الروسية بعد أن يفقد واشنطن ورقة الجنوب السوري، أما إذا ما كان الوضع المتفجر هناك هو أحد الملفات التي ستبحثها القمة، وتخرج باتفاق جديد حولها، وسبق لبوتين وترامب أن توصلا إلى اتفاقين بشأن الجنوب العام 2017 الماضي، ومهما يكن من أمر، فسواء حسم الجيش العربي السوري مدعوماً بحلفائه الوضع في الجنوب أو اتفق ترامب وبوتين على إبقاء المنطقة ضمن نظام خفض التصعيد بشروط مبتكرة، فالأرجح أن ينفتح مصير إدلب على البحث مجدداً بعد القمة الروسية الأميركية الثالثة، لكن هذه المرة، ستدخل أنقرة طاولة مفاوضات خفض التصعيد حول إدلب وفي يدها الورقة الأميركية.
ستظل التعقيدات المحيطة بملف الجنوب موجودة سواء جرى حسمه سلماً أم حرباً، والأرجح أن تتصاعد حدة التوترات داخل المثلث الروسي الإيراني الإسرائيلي بعد أي اتفاق حول الجنوب مهما كانت صيغته، وبالتأكيد إذا ما جرى الحسم عسكرياً، فهذا الحسم ووجود عناصر غير قوات الجيش العربي السوري في مناطق الجنوب المحررة من المسلحين، قد يؤدي إلى مضاعفات عسكرية تحد من قدرات الجيش على نقل كامل جهده الحربي للتركيز على إدلب في مرحلة لاحقة، أما في حال التوصل إلى اتفاق دبلوماسي حول الجنوب فإنه سيؤدي إلى تشنج روسي إيراني لن تجد موسكو له علاجاً سوى الموافقة على عملية عسكرية في إدلب، على الرغم من وجود نقاط مراقبة للدول الضامنة الثلاثة روسيا وإيران وتركيا في محيطها، تجعل روسيا وإيران تتواجهان مع الإستراتيجية التركية هناك بما يؤثر في مسار أستانا، وربما ينسفه.
مع اقتراب تركيا من الولايات المتحدة، فقد يجري دمج مصير منطقتي خفض التصعيد في الجنوب وإدلب مع منطقة عدم الاصطدام شرق نهر الفرات، كل هذه العوامل تجعل مسارات التصادم أرجح وسط تهدئة مرحلية عابرة.