قضايا وآراء

سد «اليسو».. سقوط ثان لبغداد

| عبد المنعم علي عيسى

لا شك أن هناك من يريد للعراق أن يستمر بالوضعية التي كان عليها في خلال السنوات السابقة التي تلت الغزو الأميركي، ولا شك أن ما يجري اليوم في الداخل العراقي يملك زخما هو أكبر من ذلك الذي يمتلكه الفرقاء الداخليون مجتمعين، وأصابع الاتهام يجب أن تتجه لأصحاب المصلحة الحقيقية في اندلاع أزمة «تزوير» الانتخابات ومن ثم حرق صناديق الاقتراع يوم الأحد الماضي، وأي تحقيق مستقل سيثبت أن اللعب بالنار العراقية هو الآن حالة احتياج خارجية لتمرير مشروعات تمثل بالنسبة للعديدين مصلحة عليا، والمؤكد أن كل ساعة تأخير في إطلاق تحقيق مستقل من شأنها أن تكون صباً للزيت على النار في بلاد لم يخمد الجمر تحت الرماد فيها بعد.
في يوم السابع من حزيران الجاري نشرت صور عديدة لصيادين عراقيين وهم يمشون في قاع نهر دجلة في مشهد من المؤكد أنه غير مسبوق، إذ لم تذكر كتب التاريخ أن دجلة قد وصل إلى هذه الدرجة من التجفاف في أي يوم من الأيام، وتلك أزمة تهدد الكينونة العراقية في عمقها وبدرجة أكبر من تلك التهديدات أو التحديات التي تطفو على السطح.
تبدأ مفاعيل الأزمة من التسمية التي عرف العراق بها كبلاد لما بين الرافدين، وإذا ما غاب أحدهما، أو كلاهما من يدري، فهل يصبح مثلاً بلاد الرافد الواحد أو بلاد الروافد المفقودة، والتسمية هنا لها اعتباراتها التي جاءت منها، فالعراق كان مسرحاً بدأ فيه عرض «استقرار الإنسان الأول»، والأمر نفسه ينطبق على عروض «ظهور الزراعة» و«وضع التشريعات»، ومنه انتقلت كل تلك العروض إلى باقي «مسارح» العالم.
كانت حركة النهرين هي التي فرضت على الجغرافيا طبيعة النظم السياسية التي قامت فيها، وهي التي فرضت قيام نظام مركزي قادر على الإمساك بنواصي القرار في إدارة ثروات البلاد وإغناء تجارب وحضارات شعوبها.
نحن هنا لن نعرض للجوانب الاقتصادية التي سيخلفها سد «اليسو» التركي، فقد حكي عنها الكثير وسيحكى عنها لاحقاً الكثير أيضاً، فالأزمة لها جوانب أخرى ثقافية وفكرية ونفسية وأخلاقية ولسوف ترخي بظلالها الثقيلة على كل المكونات العراقية وعلى الكاريزما الشخصية للشعب العراقي، فنهر دجلة مهدد بالجفاف والماء هو أساس الحياة، أما انعدامه فهو سيفرض أنماطاً جديدة في التفكير وفي نظم العيش القائمة، ولتبيان ذلك يمكن الإشارة إلى الاختلاف القائم بين إنسان الصحراء الذي يعيش التصحر بكل أنواعه بما فيها الفكرية منها، والإنسان الذي يعيش على شواطئ الأنهار والبحار حيث كانت الأولى على الدوام حاضنا لتجارب الإنسان وتطوراتها، فيما شكلت الثانية موانئ تمكن ساكنيها من التواصل مع جواره على الشواطئ الأخرى، وما تقوم به تركيا عدا عن أنه مصلحة تركية عليا فإنها تقوم به بدفع غربي بمعنى أنه يحدث في ظرف تلاقت فيه المصالح التركية بمصالح الغرب، وهو يقوم أساساً على حالة وهن قصوى يمر بها العراق وكذلك جواره، وانطلاقاً من هذا الواقع الأخير فإن أنقرة تسعى إلى إرساء معادلة جديدة في علاقتها بالعراق، وربما سورية لاحقاً بشكل ومعطيات أخرى، وهي تقوم على مقايضة الماء بالنفط، على حين أن الغرب، برأس حربته الأميركي، يرى أن تدمير هذا الخزان البشري الثر والذي يملك كل مقومات النهوض وصناعة القوة من شأنه إضعاف المنطقة برمتها فلا يعود العراق ظهيراً إسنادياً للجغرافيا المجاورة له في الغرب والجنوب، والغريب هو أن الأميركيين الذين يقولون إنهم يسعون إلى ضرب النفوذ والتمدد الإيرانيين في كل الاتجاهات ولا نية لديهم في إعادة بناء القوة العراقية من جديد لاستخدامها كقوة رادعة بوجه طهران بل العكس هو ما يحدث، والمؤكد هو أن التخلي الأميركي عن هذا الخيار ناجم عن «فيتو» إسرائيلي لم ينس أصحابه الـ39 صاروخ سكود التي تساقطت على مستوطناته إبان «حرب تحرير الكويت» العام 1991 وفي الذاكرة لا تزال وصية المؤسس بن غوريون التي تقول إن الخطر على إسرائيل كان يأتي دائماً من الشرق.
خطة الأميركيين لإنشاء الشرق الأوسط الجديد كانت قد انطلقت من العراق فقاموا بغزوه العام 2003 والاختيار هنا لم يكن عبثياً فتاريخ المنطقة كتب أصلاً عند سعي شعوب بلاد النيل نحو بلاد الشام وبلاد الرافدين والعكس صحيح، وإذا ما كان الغرب قد ضمن وقف الحالة الأولى، أي أن يكون شعب وادي النيل هو القائم بالسعي، فإن تدمير العراق كفيل تماما ليضمن وقف الحالة العكسية أي سعي العراق نحو الشام أو النيل، ومن المؤكد أن تجفيف العراق هو خطوة متقدمه في هذا السياق فهو سيؤدي إلى انهيار مركزية القرار ليتحول هذا الأخير إلى كانتونات طائفية أو عرقية أو عشائرية لا بد وأنها ستقوم على أنقاض النظام المركزي كبديل وحيد من شأنه أن يكون ضامناً لحقوق أفراده في مواجهة الكانتونات الأخرى.
سد «اليسو» التركي يعادل تماماً سقوط بغداد في 9 نيسان2003.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن