مباراة الجنوب السوري لا تقبل التعادل فهل سيبقى الإسرائيلي متفرجاً؟
| فرنسا- فراس عزيز ديب
سرقَ الحدث المونديالي المتمثِّل بكأس العالم 2018 الأضواء من جميع الأحداث الجارية حول العالم، فباتَ الجميع يتحدث بلغة دفاع المنطقة والهجوم الضاغط وعدم الاستسلام حتى الصافرة النهائية للحكم، وحدهم العرب استمروا كالعادة في الحديث عن خيباتهم، لأنهم ليسوا أسرى النهايات الأليمة وحسب لكنهم أسرى الخطوات الأخيرة قبل الحسم، أي الخوف من الضعف الذي يُفقدهم القدرة على مجردِ الطموح، هذا الضعف الذي يؤدي بهم عادةً إلى مجاهلِ الفشل.
لكن في سياقٍ آخر فإن الإجماع العالمي على أولوية الحدث الكروي وعدم تشويههِ بالكروت الحمراء السياسية، لم يقتحمه إلا الحدث السوري المتمثل بالحرب على سورية، بل إن هذا السلام الروحي الذي عاشه العالم منذ انطلاق البطولة حتى اليوم جعلنا نقول وبحسرة: إن كان «المنتخب السوري» قد أخفق بالتأهل الذي كان قاب قوسين أو أدنى، إلا أن «الحدث السوري» هو الوحيد الذي يجعلنا نشعر بأن ما نراه من مجاملاتٍ في الرياضة ليس إلا تكاذباً عالمياً لا أكثر.
هذا التكاذب في كرة القدم قد لا يفرق كثيراً عن السياسة مهما حاول البعض التغني بنرجسيةٍ مطلقة والقول علينا أن نفصل كرة القدم عن السياسة، هي قد تنفصل في إطار التشجيع والنظرة الشعبية للحدث لكنها حكماً ليست كذلك في الغرف المغلقة التي تُدير الأحداث الرياضية حول العالم، وإلا من كان يتوقع مثلاً أن يصوِّت لبنان والعراق لمصلحة الملف الأميركي لاستضافة كأس العالم 2026، فيما يصوِّت لمصلحة الملف المغربي كل من الجزائر التي تكاد لا تمتلك علاقات دبلوماسية مع المغرب وإيران المُتهم الدائم بزعزعة الأمن المغربي، لكن بين هذا وذاك يطل علينا الموقف السوري الذي لا علاقةَ له إلا بالثوابت التي ينتمي إليها السوريون، فالتصويت السوري لمصلحة الملف المغربي جاءَ في سياقٍ منفصلٍ عن وجود الأميركي كطرفٍ آخر، لكنه جاء في سياقِ أن الطرف الأول عربي، بمعزلٍ عن ما يمثله هذا الطرف العربي في شقهِ الرسمي من حلقةٍ في سلسلةِ الطعن بسورية والسوريين، ومن ثم إن كان الاتحاد الدولي لكرة القدم ما زال يسمح بممارسةِ لعبةِ التكاذب الديمقراطية من دون الأخذِ بعينِ الاعتبار التهديدات بالسياسة التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب لمن أسماهم «الحلفاء» في حال لم يصوتوا للملف الأميركي، فإن الملاعب المفتوحة للصراعاتِ الدولية لا يبدو أنها تختلف عن ديمقراطيةِ التكاذب «الفيفاوية»، تحديداً أن ما تجمعهُ الرياضة قد تفرقهُ السياسة، لكن ما تجمعه السياسة لن تفرقهُ الرياضة بل لن تفرقهُ إلا السياسة، فكيف ذلك؟
منذ أن برز مصطلح «معركة الجنوب السوري» على السطح وما تبعهُ من أحداثٍ سياسيةٍ كانت بشكلٍ أو بآخر مرتبطة به، انتظر الجميع ما ستؤول إليه نتيجة التفاهمات الدولية على آلية إنهاء الملف سلمياً وبعيداً عن ضجيج المعارك، أي إن الجنوب السوري تحول إلى حدثٍ مونديالي من نوعٍ آخر، لكن حتى الآن يبدو أن كل المباحثات حول آلية إنهاء ملف الجنوب باءَت بالفشل مع التركيز على ثابتتين: إن قضية إنهاء ملف الجنوب بات قراراً حتمياً لدى القيادة السورية والحلفاء، أما الفشل فهو ليس مرتبط إلا بما يريدهُ الإسرائيلي من شروطٍ وابتزاز لتسهيل إنهاء الملف والكف عن الضغط على العصاباتِ المسلحة التي تسيطر على مناطق شاسعةٍ من هذا الجنوب بدعمٍ مباشرٍ من الكيان الصهيوني، أو بتوجيهٍ وإسناد من غرفة «الموك» التي تتخذ من مملكة عبد اللـه بن الحسين الأردنية مقراً لها، لأن الإسرائيلي بات يرى في معركة الجنوب كرصيدٍ أخير لمحاولة شراءِ الانتصارات بالمجان، لذلك فإن استماتته في الضرب على أي تسويةٍ تلوح في الأفق تنطلق من بديهيتين أساسيتين، الأولى ضمان إنهاء أي وجودٍ إيراني أو لـ«قوات حزب الله» في سورية، والثانية ضمان التحضير لكل ما يمكن أن يشكل أرضية لردات فعلهِ في حالِ فشلت مساعيه، ولعل الحدثين الأبرزين اللذين يفسران لنا ما يريده الكيان الصهيوني هما الاعتداء على نقطة عسكرية تابعة للجيش العربي السوري والحلفاء قرب البوكمال مهمتها محاربة تنظيم داعش الإرهابي، وإعلان الكيان الصهيوني عن اعتقالِ وزيرٍ سابقٍ بتهمةِ التجسس لمصلحة إيران، فما الرابط بين هذين الحدثين؟
منذ أن أعلنت القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة عن الاعتداء الذي طال نقطة عسكرية في البوكمال كان من الواضح أن الهدف من هذا الإعلان وضع الجميع أمام مسؤولياتهم، وهو ما أجبرَ التحالف الذي يقودهُ الاحتلال الأميركي على المسارعة لنفي أي علاقة لهُ بهذا الاعتداء، بالتأكيد فإن هذا النفي لا يعني بالضرورة أنه ليس على علمٍ بمن نفذ، لكن في النهاية علينا الاعتراف أنه ليس الوحيد الذي من المفترض أنه يعرف لأن الأجواء السورية مراقبة من الأصدقاء قبل الأعداء، وإذا كانت إسرائيل فعلياً هي صاحبة المصلحة الأكبر في هذا العدوان وإن كانت نفذته بشكلٍ مباشر أو غير مباشر فإن المسار الجوي الذي سلكته الطائرات المعادية يبدو وكأنه يفتح تساؤلاتٍ جديدة، تحديداً أننا نتحدث عن أقرب نقطة تصلها المقاتلات الإسرائيلية قبل أن تصبح على مسافةٍ هي الأقرب كخطِّ نظرٍ نحو الحدود الإيرانية العراقية شرقاً، فهل هذا الأمر هو أشبه ببروفا إسرائيلية لما يتم تحضيره من عدوان سيستهدف مراكز إيرانية حساسة، أم إن الأمر لا يعدو كونهُ محاولة جديدة لجر الحلف المعادي نحو حربٍ يستفيدون منها ويشغلونهم عن إنهاء ملف الجنوب؟
ربما الأمر مزيج بين كلا الاحتمالين، فالإسرائيليون الجاهزون للوقوف بوجه معركة الجنوب أياً كانت السبل، صدمَهم الاعتراف السوري بالعدوان، حتى ما حُكي عن تقاربٍ بين الأردن وسورية تم إنهاؤه بعد أن التأم اللئام في مزارع النفط الخليجية بقمةٍ اقتصاديةٍ لمساعدةِ الملك الأردني وانتشاله من أزمته الاقتصادية، لأنهم يدركون أن أي تقاربٍ بين سورية والأردن سيعني إحكام الجيش العربي السوري القبضة على الحدود الجنوبية، أما التحضير للاحتمالات الأسوأ فإن آخرَ ما حرر فيها إعلان إسرائيل القبض على وزير الطاقة السابق غونين سيغيف بتهمة التجسس لمصلحة إيران وحزب الله، فكيف ذلك؟
في الإطار العام لا يمكن التعاطي مع الاعتراف الإسرائيلي بهذه البساطة، لسببين:
أولاً: إن قضايا كشف الجواسيس عادةً ما تثير أزمات حتى بين الدول التي تمتلك علاقات دبلوماسية قوية، فكيف ونحن نتكلم عن كيان ودولة كانا ولا يزالان على شفير المواجهة العسكرية.
ثانياً: يدرك قادة العدو قبل غيرهم أن الكيان الصهيوني أوهن من بيت العنكبوت، والبناء الداخلي الذي أُقيم عليه بناءٌ هش قد يتحمل خضاتٍ داخلية من قبيل حربٍ هنا أو هناك محدودة الزمن، وقد يتحمل قضايا تتعلق بتوقيفاتٍ لمسؤولين مرتبطين بملفات فساد، لكنه حُكماً لن يتحمل قضية بحجم تمكن العدو المباشر، أي إيران وحزب الله، من اختراقِ شخصيةٍ كانت في مراكز السلطة، كما أن توقيت الإعلان عن اكتشاف هذا الجاسوس هو ليس في إطار الاستثمار الداخلي الذي يسعى إليه رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو المتورط أساساً في تهمِ فساد مع زوجته، علماً أن استطلاعات الرأي الصهيونية تؤكد أن شعبية نتنياهو لدى الإسرائيليين في ارتفاعٍ مستمر وكان آخرها استطلاعات الرأي التي أجرتها كل من القناتين الثانية والثالثة عشرة الإسرائيليتين، وكلها تعترف أن نتنياهو من أجبر الرئيس الأميركي على نقل السفارة الأميركية إلى القدس ونجح بسحب الأميركيين من الاتفاق النووي مع إيران إضافة إلى التحالف غير المعلن مع ولي عهد آل سعود محمد بن سلمان، أي إن نتنياهو يمثل بحق الروح العدوانية والهتلرية للإسرائيليين لذلك هو لا يبدو بحاجة لاستثمار قضية الوزير الجاسوس في السوق الداخلية بقدر ما هي حاجة له لاستثمارها بالسوق الخارجية وتهيئة الأرضية اللازمة لأي مغامرة إسرائيلية تجاه إيران أو لبنان وسورية، فماذا ينتظرنا؟
من وحي المونديال الكروي فإن الجنوب السوري في الأيام القادمة سيكون الملعب الوحيد الذي سيتابع الجميع المباريات التي ستجري عليه، وإذا كان هناك من اعتاد أن ينهزِم في الدقائق الأخيرة، فليتذكر الجميع أن المنتخب السوري بعكسهم اعتاد في التصفيات أن ينتصر أو يتعادل في الدقائق الأخيرة، لكن مباراة الجنوب لا يبدو أنها قابلة للتعادل، تحديداً أنها ما بدأت لتنتهي، وبمعنى آخر:
إنهاء معركة الجنوب هو الاختبار الأخير للنيات الإسرائيلية، فإما أن يجلسوا ويتابعوا فريق الإرهابيين الذي يدعمونه وهو يتهاوى تحت أقدامِ شجعان هذا العصر، أو يحاولون تخريبَ المباراة على طريقة المشجعين الإنكليز، عندها فقط سنحتار أي الملاعب سنتابع منها المباريات، ومن منا لا يحلم بأن يتابع المباراة التي ستجرى على ثرى الجولان السوري المحتل مثلاً، فها نحن ننتظر ونرى.