«الحُديدة» تهمس لـ«البوكمال»
| علي محمود هاشم
مجددا، يتمظهر ترابط المعركة العالمية على ممرات التجارة والطاقة شرق المتوسط.
في العام 2013، وبعد إخفاق الاستثمار البريطاني بأولى مسرحيات الكيماوي التي استهدفت غوطة دمشق كمدخل لفرض «سورية المفيدة» مقابل استحواذ حكومة التاج على رأس جسر بري يخترق «سورية غير المفيدة» شرقا يضمن التدفق الحر للمصالح الغربية بين الخليج وأوروبا وبالعكس، ذهبت الخطط الغربية البديلة إلى المعابر المائية العالمية عند مضيق هرمز وباب المندب وقناة السويس وجبل طارق.
النجاح الذي حصدته بريطانيا وفرنسا في 2013 ممتطيتين «أحباءهما» التاريخيين من جماعة «الإخوان المسلمين» لتحويل إقليم السويس إلى «منطقة اقتصادية» عالمية منزوعة السيادة تعويضا عن خسارتهما القناة في 1956، اصطدم بفشل مواز في مضيق هرمز حين أظهرت إيران نيتها المضي في الدفاع الشرس عن مصالحها هناك، وعلى التوازي، كانت المقاومة اليمنية على أهبة الاستعداد لمنع الذراع البريطانية الأخرى المنحوتة من تكفيريي «أبو ظبي»، من الاستحواذ الناعم على مضيق باب المندب وخليج عدن.
ميناء الحُديدة المطل على باب المندب، هو المربط الشرقي لـ(جسر النور) الذي رفضه اليمن في 2008 قبل أن تداهمه بريطانيا بعمامات أبو ظبي والسعودية للسيطرة على الميناء عند الضفة الشرقية لباب المندب منذ 2013، وبالطبع، فليس لها من شريك على ضفة (الجسر) الأخرى على شاطئ جيبوني، سوى «إسرائيل» القابعة في الجزر الإريترية السبع المطلّة على المضيق، وكذا فرنسا بقاعدتها الإفريقية الأضخم على ساحل جيبوني، ومعهما الولايات المتحدة الأميركية بطواقم المارينز الجاثمة على برّ الصومال.
ميناء الحديدة على المندب، هو مدخل البحر الأحمر شمالا، هذا البديل «التلمودي» لقناة السويس وفق تطلعات بن غوريون، شهد لعبة إسرائيلية سعودية فاضحة قبل عامين بتخلّي مصر للأخيرة عن مضائق تيران بخليج العقبة!، ولولا صعوبة تسويق الأمر آنذاك، لنجحت مصر في تحقيق حلم تيودور هرتزل بشقٌ قناة «البحرين» بين خليجي العقبة وحيفا، بديلا لقناة السويس؟!
قادت بريطانيا الحرب على الشرق الأوسط متسلحة برزمة من مصابيح «علاء الدين»، ومع إخفاق «مَرَدَتِها البرّيين» في إقامة «سورية المفيدة»، انبثقت البدائل البحرية جنوباً ليلاقي «مردتها البحريون» المصير ذاته، وبغض النظر عن مصير الحديدة التي تشهد اليوم أعنف قطعان القوات الغربية والأعرابية المتحالفة مع التكفير، فإن الأمر لا يزال رهنا بتلك «السورية المفيدة»، ذلك أن مصير طرق التجارة والطاقة عبر البر السوري العراقي، كان ويتأخر عن لعب دور مقبرة المشاريع البحرية المفتوحة على الدوام، ما يستدعي -أقلّه- إغلاقها قطعا لتلك الجغرافية.
سياق الحرب متعددة (الجنسيات والأديان) على الحديدة، يتزامن مع محاولات متجددة لاستنهاض «قسد/داعش» متعددة (الجنسيات والأديان) أيضاً شرق سورية، إلا أن الهدف قد لا يكون الهيمنة عليها كليا، بل الاكتفاء بتكريس تهديد مديد للمعابر الحدودية بين سورية والعراق كأقصى ما يمكن لـ«مردة بريطانيا» تحقيقه، إلا أن ذلك سيكون كافيا لقطع طريق الحرير الصيني: برا عبر تهديده عند الحدود السورية العراقية، وبحراً عبر انفراط (عقد اللؤلؤ) الذي نظمته الصين ميناء فآخر على امتداد سواحل آسيا الجنوبية وصولا إلى البحر الأحمر فالمتوسط.
إن حصل الأمر، فعندها ستستعيد بريطانيا هيمنتها التاريخية على طريق الهند الشرقية، بعدما تفتتح قبرا بحريا لدفن الأحلام الصينية في البحار العربية التي استلقى تحت مياهها الجنرال «تشنغ خه» قبل 6 قرون إبان بحثه عن استنهاض طريق الحرير.
الترابط العضوي بين معركتي الحديدة والبوكمال أكثر من جليّ، وهو يحمل في طياته مفارقات غاية في الفرادة، فإذا لم تشهد العلاقات التركية الروسية مفترقا حادا على سبيل المثال، فلربما نجد إمارة قطر التي لعبت دور رأس الحربة للاستيلاء على «إمارة سورية المفيدة»، وقد تحولت إلى إمارة سعودية بالكامل تطويبا للحلم البريطاني بالاستحواذ كليا على غاز حقل فارس كبديل لصنوّه الروسي أوروبيا!، فيما روسيا التي يمكنها التعايش مع بدائل بحرية لتجارة الطاقة طالما أنها ستحتفظ بحضورها الطاغي في السوقين الأوروبية والآسيوية، لن يكون لتهديد طرق التجارة البرية شرق سورية من تأثير سلبي على تطلعاتها، نظريا على الأقل.
في النهاية، ستنجح الصين بحياكة تفاهمات مناسبة لطريق الحرير وفق المعطيات الموضوعية لنتائج الحرب الغربية على شرق المتوسط، أياً كانت.
ما يثير الاستغراب بالفعل، هو قبول الحكومة العراقية، وبطريقة انتحارية، بتعويضات غربية رمزية من قبيل استئناف شحن النفط بديلا من افتتاح المعبر الحدودي مع سورية الذي يجسد نهاية الحرب في المنطقة وعودة الحقوق التاريخية لشعوبها، على أراضيها؟!