شرفاء الضفة الأخرى
| حسن م. يوسف
من السهل عليك أن ترى مزايا إخوتك وأبنائك الذين تحبهم، لكنه ليس سهلاً أن ترى مزايا الجديرين بالاهتمام والتقدير على الضفة الأخرى، وخاصة عندما يفصل بينك وبين تلك الضفة بحر من العداوات العميقة الممتدة.
بعض الناس يجفلون من فكرة وجود متصهينين عرب، لكنهم يجفلون أكثر من فكرة وجود مناضلين يهود يناصرون القضايا العربية!
وقد سبق لي خلال عملي في الصحافة أن مشيت، غير مرة، في حقل الألغام هذا، ذهاباً وإياباً؛ ففي ثمانينيات القرن الماضي استضافت الدولة السورية المناضل الأميركي، اليهودي المعادي للصهيونية ألفريد ليلنثال، وقد التقيته في دمشق وأجريت معه حواراً نشر على صفحة كاملة في جريدة تشرين. كما كتبت مراراً عن المتصهينين العرب الذين يروجون للتطبيع مع العدو الصهيوني، كان آخرها قبل نحو شهر عندما كرست الحديث الذي أقدمه صباح كل سبت على هواء سوريانا إف إم لفضح أكثر عشر شخصياتٍ سعودية من المبشّرين بالتطبيع مع العدو الصهيوني.
أومن أن من حقنا ومن واجبنا أن نتصدى للمتصهينين العرب وأن نفضح عمالتهم ونعلن احتقارنا ونبذنا لهم. لكنه من أوجب واجباتنا أن ننصف أي يهودي ينحاز للحق وللإنسانية ويدافع عن قضايانا العادلة. وانطلاقاً من هذه القناعة، كتبت عن عازف الكمان الأميركي الشهير يهودي منوحين، (1916 –1999) الذي عاش حياته الإبداعية في بريطانيا ومنحته ملكتها لقب (سير) الرفيع. فعندما أبلغوه في الكيان الصهيوني في أواخر حياته أنهم ينوون منحه جائزة الدولة، وهي أكبر تكريم يمكن أن يحظى به أي مبدع في (إسرائيل)، وافق على الحضور، مضمراً شيئاً آخر. وعندما وقف أمام أعضاء الكنيست خاطبهم قائلاً: «إن ما تفعلونه بالفلسطينيين أسوأ مما فعله النازيون بأجدادكم، ومن يحكم بالسيف، فبالسيف يموت»، ثم رفض استلام الجائزة وغادر الكيان الصهيوني!
وانطلاقاً من هذه القناعة أيضاً كتبت مراراً عن العلامة نعوم تشومسكي، الذي ينعته المتعصبون الصهاينة بـ«العدو» ويلقبونه بـ«اليهودي الذي يكره نفسه» ولا يكفون لحظة واحدة عن شيطنته، رغم أنه يعتبر أكثر العلماء تأثيراً في علم اللغويات الحديث، فهم لم ولن يغفروا له اكتشافه لـ«عنصرية الصهيونية» خلال خمسينيات القرن الماضي، وعودته إلى أميركا ليصف (إسرائيل) بأنها «ضالة ومضللة»، وليصف سياسة أميركا بـ«الخادمة التي تكيل بمكيالين». في كتابه «الهيمنة أم البقاء» يقول تشومسكي: «لا يحق لأميركا أن تتبجح بالحديث عن دفاعها عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ لأن حليفتها إسرائيل تدوس على هذه القيم يومياً وعلى مدى الخمسين عاماً الماضية، والمصائب تتوالى على رأس الشعب الفلسطيني ولا أحد يجرؤ على التحرك لإنقاذه خوفاً من القوة العظمى في العالم: الولايات المتحدة».
كما كتبت عن الأكاديمي الأميركي اليهودي نورمان فينكلشتاين الذي أحدث زلزالاً في أوروبا وأميركا عندما أصدر كتابه «صناعة الهولوكوست… القوة الخارقة التي يتمتع بها اللوبي الصهيوني».
كذلك كتبت في بداية حياتي المهنية مراراً عن المحامية اليهودية فيليتسيا لانغر التي كانت تدافع بإخلاص ومهنية عالية عن الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين أثناء اعتقالهم من المحتلين الإسرائيليين. وقد وجهت لها تحية عندما قررت مغادرة فلسطين المحتلة نهائياً
الى ألمانيا، وقد بررت موقفها ذاك في مقابلة مع صحيفة «واشنطن بوست» إذ قالت: «قررت أنه لا يمكنني أن أكون ورقة التين التي تستر عورة هذا النظام بعد الآن».
الدافع الأساسي لكتابة هذا المقال هو توجيه التحية لكل المناضلين على الضفة الأخرى وعلى رأسهم المحامية المناضلة فيليتسيا لانغر التي غادرت عالمنا يوم الجمعة الماضي 22 حزيران عن عمر يناهز ثمانية وثمانين عاماً.
الشرفاء لا يموتون.