عن «جسد المسيح» وهوليود الدعاية الأميركية: هل من مكانٍ للأخلاق في السياسة؟
| فرنسا- فراس عزيز ديب
في الفيلم الهوليودي «القبر» الذي أُنتج في العام 2001، تكتشف عالمة آثارٍ صهيونية خلال التنقيبات في المدينة القديمة للقدس المحتلة هيكلاً عظمياً يعود للقرن الأول، لتخرجَ بعدها بدراسةٍ تؤكد فيها أن هذا الجسَد هو للسيد المسيح عليه السلام، على الفور يُرسل الفاتيكان قسَّاً ليدحض ادعاءَ هذه الباحثة، كيف لا ووجود جسد للسيد المسيح يعني عملياً طيَّ فكرة القيامة والصعود، ومن ثمّ نفي المسيحية من أساسها؟
في الوقت ذاته كانت المخابرات الإسرائيلية تسعى لمقايضةِ الفاتيكان بإخفاء الرفات وطي نتائج البحث مقابل اعتراف فاتيكاني بالقدس عاصمةً للكيان المحتل، وسط هذا البازار الديني والسياسي يَظهر الطرف الثالث الذي يقدمونه كمجموعة إرهابية تحاول عبر العمليات الإرهابية سرقة الرفات والهروب به إلى سورية لمقايضته بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، الفيلم الذي تجاوزَ كل الخطوط الحمراء في التسويق للرواية الإسرائيلية وحق الشعب اليهودي بفلسطين، حاول أن يسوِّق لفكرة أن كل السبل لا تزال ممكنه لنفي أو تأكيد ما نريده، وأن كل شيء عُرضة للابتزاز السياسي، الفيلم ببساطة يجعلك تسأل، ما إسقاطات تبرئة البابا بنديكت لليهود من دم المسيح، وما علاقة السياسة وبازاراتها بتحميل «الكاثوليكية الأوروبية» مسؤولية ما يسمى «المحارق اليهودية»؟ ربما لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، لكن حقيقة مهمة تتجسد في المقولة التي قالها القس الذي أظهرهُ الفيلم وقد تأثر بالدراسة وتركَ منصبهُ عندما أمسك هو والإرهابي المزعوم أبو يوسف قنبلةً كادت تنفجر بهما ليقول له: لا مكان لله في السياسة.
عبارةٌ تتجسدُ أمامنا في كل ما يجري حولنا من قتلٍ ودمار عابرٍ للدول والمحيطات؛ لكنها على المستوى الداخلي عبارةٌ علينا التعاطي معها بالكثيرِ من الحذر كي لا نقعَ في حقلِ ألغامٍ ينصبه لنا المتصيدون من أبناء جلدتنا أولاً، تحديداً أولئك الذين وظَّفوا أنفسهم ساعين لهداية الناس وإدخالهم جنات النعيم وكأنهم ببساطةٍ ضمِنوا جواز العبور، وإذا كان ذاك البازار المفتوح يثبت لنا فعلياً أن لا مكان لله في السياسة، فإنه عملياً لا مكان للدين في جسم الدولة، لأننا عندها سنقع ضحايا لابتزازاتٍ وتداخلاتٍ نذهب ضحيتها جميعاً، عندها سيكون السؤال المنطقي: أين مكان الأخلاق؟
في مجتمعنا السوري العلماني بالفطرة تسود عبارة «أدب الدين قبل الدين»، علماً أن القوم الذين ظنوا أن اللـه لم يهد سواهم حاولوا كثيراً تحجيمَ عظمة هذه المقولة بتصوير الدين وكأنه مشرِّع للأخلاقيات، تحديداً عندما يستسهلون الوقوع في مطب الأحاديث الدينية الضعيفة التي تستَسهِل فكرةَ «الغفران» لمجرد الخنوع في الدين، هم بطريقةٍ غير مباشرة يحجبونَ الأخلاقيات ويحولونَها لكمالياتٍ ملحقة بالدين، تحديداً أن الأديان جاءت لتكمِّل الأخلاق الموجودة قبل الأديان كما أنه ليس بالضرورة أن تنتمي لدينٍ ما حتى تكون أخلاقياً، لكن في المقابل فإن «المتاجرين باسم الدين» ليسوا وحدهم من حجَّمَ وأساء للأخلاق، لأن هناك من هو أسوأ منهم تاجر بالأخلاق ذاتها وحولها إلى مطيّة تشبهُ إلى حدٍّ بعيد كذبة الديمقراطية، وبمعنى آخر: عندما تملك جهازاً دعائياً اسمه «هوليود» مقروناً بانعدام الأخلاق فأنت قادر فعلياً أن تصنع لنفسك عالماً خاصاً يحولك إلى القداسة.
من المتعارفِ عليه أن أي دولةٍ في العالم تدعم جهازها الإعلامي الخاص أو العام في محاولةٍ لتلمع صورتها أو تبرير سلبياتها، ففي سورية مثلاً كانت الدراما سلاحاً غزت بهِ سورية كل البيوت العربية، بل إن بعض هذه الدراما كان بالإطار العام مدعوماً من الدولة لأنها تخدم توجهاتها وهذا الأمر مقبول، تحديداً لأن الدولة السورية لم يكن يوماً لديها توجهات عدائية تهدف إلى غزو الآخر أو ارتكاب جرائم حرب هنا وهناك، دون نسيان فرضية أن هناك أعمالاً اقتحمت الدراما السورية وحولتها لمطية بهدف تشويه المجتمع السوري. أما في العالم المجنون من حولنا فإن الكارثة تصبح عندما يتم استخدام أسلحة إعلامية وثقافية كهذه ونجومها لتبريرِ الجرائم وتحويل المجرم إلى أيقونةٍ في الإنسانية، ليس فيلم «القبر» وحده ولا مع ترشيح الأفلام التي تمجِّد جرائم الإرهابيين كـ«الخوذ البيضاء» لنيل جوائز عالمية، لكن هناك سلسلة طويلة من الأفلام الهوليودية التي أثبتت فكرة أن هوليود هي أهم ذراع دعائية تخدم الولايات المتحدة وسياستها الشيطانية، فعلى سبيل المثال هذه المدينة السينمائية أنتجت عشرات الأفلام التي تبرر غزو العراق وأفغانستان وتتحدث عن الدور الإنساني للجندي الأميركي هناك فهذا ينقذ طفلاً، والثاني يحمل عجوزاً، علماً أن هذا الجيش نفسه هو من قتل وشرد ملايين العراقيين، وهو من قام بارتكاب مجازر الفلوجة وهو من قام بسرقةِ ونهب العراقيين في أكبر عملية سرقة عرفها التاريخ لبلدٍ مستقل، هذا الجهاز الدعائي مرتبط كذلك بالاستثمار بالنجوم، فبين الفينةِ والثانية يطل علينا نجمٌ هوليودي بزيارةٍ استعراضيةٍ ما وأخذِ الصور التذكارية إما مع مناطق تحررت من داعش، أو مع اللاجئين والمشردين بسبب السياسات ذاتها التي اتخذتها بلدانهم، فالممثلة آنجيلينا جولي مثلاً التي لا يبدو أنها تنفصل عن جهازِ الدعايةِ هذا زارت قبل أيام الموصل في العراق بعد تحريرها من داعش، هم يكسبون من هذه التجارة بالأخلاقيات أحد أمرين:
إعادة تلميعِ صورة الأخلاقيات التي يتاجرون بها وكأنهم يريدون إقناعنا أن الأخلاقيات تتجزأ، والثانية إعادة تذكيرنا بأن الديمقراطية هي الحل لكل معضلاتنا، فهذا النجم يحاول إنسانياً أن يُلملم التجاوزات التي اقترفتها بلاده، لكن علينا هنا العودة للأساس: ما نفع الديمقراطية إذا لم تكن تهدف إلى منعَ هذه الجراح أساساً؟
هذه المفارقات التي تقع فيها الولايات المتحدة بين الخطاب الأخلاقي وبين التصرفات اللا أخلاقية التي باتت شعاراً لها لم تساهم فقط في كشف حقيقة هذه الدولة ولكن في الوقت ذاته تعطينا في السياسة الدولية مؤشراً لما هو أهم، فكيف ذلك؟
مما لاشكَّ فيه أن الأمم المتحدة وكل ما نتج عنها وتفرع منها من منظماتٍ واتفاقياتٍ دولية هي بالنهاية نتاج الميزان السياسي الذي فرضه الوضع العسكري للدول المنتصرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار المنظومة الاشتراكية تحولت الأمم المتحدة إلى ملعب بيسبول أميركي، تطلق فيه الولايات المتحدة بعصا القانون الدولي الذي تتحكم به الكرات هنا وهناك، وتترك للجميع محاولةَ التقاطها لتمنحهم شرف تسجيل النقاط، لكن في النهاية فإن إصلاح منظمات كهذه وإعادة هيكلتها قد لا يتطلب حكما توافقاً دولياً لأنه لن يتم، بل يتطلب فرضَ ميزان قوى جديد في السياسة والعسكر، هذا الأمر حققتهُ الحرب على سورية والصمود السوري الذي أدى لصدمةٍ إيجابية عند القوى الكبرى التي كانت منذ عقدين تُحابي السياسة الأميركية، صمودٌ بات يتسلل بهدوءٍ نحو العقل الأميركي لتجعله يغضب ويحرد ويرى نفسه شيئاً فشيئاً يفقد القدرة على التحكم بتلك المنظمات، وبمعنى آخر: لن يكون الإعلان الأميركي الأخير عن الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الأول ولن يكون الأخير في سلسلة قراراتها الانسحابية، واللافت أن معظم هذه القرارات جاءت من دون الحاجة لدراسة سمعة الولايات المتحدة بعد هذا الانسحاب، ولم يأتِ نتيجة لتعرض المصالح الأميركية مباشرةً بل هي جاءت كرد على انتقاد هذه المنظمات للكيان الصهيوني.
في الخلاصة: يبدو فعلياً أننا في زحمة الانتصارات التي يحققها الجيش العربي السوري نتجاهل انتصاراً لا يقل أهمية عن الانتصار العسكري، ببساطة القضية ليست بسقوط المنظومة الأخلاقية الدولية التي كانت شماعة تفرض حتمية التفوق الغربي لكنه في الوقت ذاته بات أشبه بصداعٍ انعزالي يحاصِر الولايات المتحدة عن محيطها الدولي، لكنهم في النهاية قادرون ببساطة أن يعرضوا في كل وقت كذبة من قبيل «جسد المسيح» للمتاجرة بها في البازار الدولي؛ هم حاولوا إقناعنا منذ العام 2001 أن لا مكان لله في السياسة وأن السياسة بلا أخلاق؛ نحن نعرف أن هذا الأمر ليس مرتبطاً بهم بل مرتبط بمن يمارس السياسة حقاً ومن يمارس الإجرام باسم الله، ما يجري حالياً ليس كما يصوره البعض تعجرفاً أميركياً تجاه المجتمع الدولي هو بالنهاية استكمال لانتصارات تطوق الأميركي وغطرسته وتحفر له قبراً، لكنه ليس قبراً برواية هوليودية، هو قبر سيوضع فيه كل من يتاجر بالمقدسات، دينية كانت ليحولنا إلى سلع جاهزة للتصدير إلى الجنة، أم أخلاقية جاهزة للتصدير نحو المجهول.