دوامة المحللين
| زياد حيدر
في علم الاتصال الجماهيري ثمة مصطلح يعود للسبعينيات، سمي «دوامة الصمت»، يصف شريحة من جمهور وسائل الاتصال.
وجاء هذا المصطلح في محاولة لتمييز شرائح الجمهور، خصوصاً حين تتخذ وسائل الإعلام «جانباً مؤيداً لإحدى القضايا أو الشخصيات، ويؤدي ذلك إلى تأييد معظم الأفراد للاتجاه الذي تتبناه وسائل الإعلام بحثاً عن التوافق الاجتماعي»، ووفقاً لموسوعة «ويكليبيديا» فإن «الأفراد المعارضين لهذه القضية أو ذلك الاتجاه، يتخذون موقف الصمت تجنباً لاضطهاد الجماعة وخوفـاً من العزلة الاجتماعية بما يدفعهم لحجب آرائهم الشخصية، وتقليل الرغبة في الكلام».
وللتوضيح، هذا ليس ذاته المصطلح الشائع الذي كثر تداوله في أزمة بلادنا، وهو «الأغلبية الصامتة»، والذي كان يشار إليه باعتباره جدول الماء الساكن والفاصل بين بحرين هادرين من الآراء.
مناسبة الحديث، عن «دوامة الصمت»، هو «دوامة المحللين» المقابلة التي لا تهدأ على الشاشات العربية. التحليل السياسي هو اختصاص مهم، يتعدى إبداء الرأي في قضية، وتقييم حدث، والأخطر التنبؤ بما سيؤول إليه ظرف طارئ أو مستجد.
منه نقفز للتحليل العسكري، الذي لا يقل أهمية في التخصص عن السياسي، وفيما يجب للأول أن يكون صاحب تجربة وعلم، وعاملاً في مجاله وليس متطفلا في أوقات فراغه أو حين الطلب، يكون العسكري من دون شك «ابن المصلحة» إذا جاز التعبير، ضابطاً سابقاً، أو خبيراً عسكرياً أو متخصصاً بالعلوم العسكرية، وبشهادة صريحة لا مجرد كلام.
وهنا نأتي لموضوع الشهادة، ويجوز السؤال، كيف نسمح لأنفسنا بإطلاق صفة خبير إستراتيجي على ضيف تلفزيوني أو إذاعي ومن أي خلفية؟ كلمة إستراتيجي، تجمع الصفات السياسية والعسكرية وتخصصات أخرى كثيرة تمتزج فيها الجغرافيا السياسية بالاقتصاد السياسي والعسكري وصولا حتى لمتابعة التقدم التقني، ومن دون شك التجربة الطويلة في البحث الإستراتيجي.
أعرف من دون حاجة للسؤال، أسباب هذه المعضلة ولاسيما على الشاشات العربية، ابتداء من ضرورة ملء فراغ الشاشة، وهو مع الاحترام مصطلح إعلامي عربي فقط، يشار إليه بالعامية بـ«تعباية الهوا»، وصولاً لفرض ضيوف معينة، من دون الاهتمام الفعلي بما سيقولونه. وعملياً لتفادي المتصيدين، يمكن المقارنة بين الوقت الذي تشغله هذه «الحرفة» على قناة إعلامية ناطقة بالعربية وشقيقتها من المؤسسة ذاتها ناطقة بلغة أخرى، على الشاشات الموجهة للجمهور العربي، نسبة الإشغال الإعلامي للمحللين والمعلقين تزيد بما هو أكثر من النصف على نسبتها في القنوات الأجنبية.
رغم ذلك، من الإنصاف القول أيضا، إنها مسألة لا تختص بها شاشاتنا فقط، ولكنها تبالغ بها فوق الحد المقبول. كل المحطات تخصص أوقاتاً طويلة للنقاش السياسي المحلي والدولي، وتستعرض الضيوف، ومنهم من يتحولون لنجوم، رصيدهم الكاريزما أكثر من العلم والخبرة، والأمر رائج لدينا كعرب، وفي الغرب أيضا، وفي إسبانيا تسمى الأوقات المخصصة لهذه البرامج السياسية (وهي ساعات طويلة) «ساعات الثرثرة» وأحياناً «ساعات الهراء»، لكثرة ما فيها من تكرار، ونفاق سياسي وابتعاد عن جوهر القضية وأحياناً تصفية حسابات شخصية.
ولكن من دون مقارنة، لأن أحوالنا مختلفة، يمكن لـ«دوامة المحللين» اليومية، أن تصبح منتجة، إن تم التعاطي معها بطريقة مختلفة، تكون بداية بتناسي العادة السيئة المتمثلة بـ«تعبئة الهواء»، التي تبدو متقاطعة مع جهود تفريغ أو تسطيح العقول، ونحن في أمس الحاجة إليها الآن.