في تمام السادسة إلا ثلاثين .. فائزة داوود… تجمع بين الواقع والخيال في شخوص يحركها أسلوب ساخر
| سوسن صيداوي
من الواقع وكل الواقع. في القصص عبر، في القصص مشاعر وأفكار ومواقف، ربما سمعنا عنها أو صادفناها، وفيها من كل الحياة بفصولها وألوانها وزوارها وحتى بطبيعتها، وكاتبتنا فضّلت أن تكون بقصصها ابنة الواقع ونجحت في نقلها لنا الصور بكل شفافية وصدق في مجموعتها الجديدة «في تمام السادسة إلا ثلاثين» للكاتبة فائزة داوود، التي تمكنت عبر أربع عشرة قصة من الأسلوب السردي القصصي، الذي تلاءم مع كل البيئات التي جرت فيها أحداث القصص المتعددة، الأمر الذي انعكس أيضاً على الشخوص المنتمية إلى العديد من الأزمنة المختلفة والأماكن المتنوعة، حيث يظهر التباين النفسي والاجتماعي والثقافي بينها، وسنورد بعضا من الأمثلة. وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن المجموعة صادرة حديثاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وتقع في143صفحة من القطع المتوسط.
في تمام السادسة إلا ثلاثين
في القصة التي حملت العنوان أعلاه وعنوان مجموعة القصص، استطاعت داوود أن تجمع مع الخيال الكثير من تداعيات الأفكار والأوهام الممزوجة بخوف ورعب الترقب والانتظار القادم مع أشباح الأمل المزيف في عودة «سامر» من الحرب حيا، في زوبعة من المشاعر والأفكار لرفض حقيقة موته من أمه التي تترقب عقارب الساعة، وفي المقطع الذي جاء في التعريف من المجموعة نذكر لكم «صار البيت الحجري معبداً، أتت إليه المكلومات من كل البيوت، القريبة منها والبعيدة، فيما أيقونة تعوزها الهالة، تنظر بصمت إلى ساعة جدارية قديمة، ويداها الهرمتان اللتان تستريحان في حضنها الأسود لا تهتمان لأمر منديل أبيض يغطي رأسها، ينتفض حيناً على مرور ما تظنه صاحبته أشباحاً، وأحياناً تحركه نسمة متسربة من بين مصراعي النافذة التي يتكئ عليها رأس المرأة الأيقونة. صامتة هي تحرك رأسها فيطمئن زوار المعبد إلى أنها ما زالت ترى العالم المحيط بها رغم كابوسيته الواقعية. مشغولة هي بمهمة كلفت نفسها بها منذ أكثر من ستة أشهر وأسمتها الانتظار. تسأل نفسها عن السبب الذي حال دون وصول فتاها الحبيب. في الموعد الذي حدده بدقة».
عالم جميل ولكن
في هذه القصة أيضاً نجد أن الحرب فعلت فعلها وتركت أثرها في الشخصية، فالمأساة حاضرة بما قدمت الحرب من ويل لرجل ما كان همه إلا قذف-بقدمه-شيء رُمي باتجاهه مع أصدقائه، الأمر الذي فتت ساقيه. الكاتبة في حسها الفكاهي الذي يشير بالأسلوب إلى بساطة الكبار، أشارت هنا إلى قول والدة «سليم» بأنه كان على رفاقه جمع كل فتات ساقيه والقيام بدفنه كي يتمكن «سليم» من الوقوف أمام خالقه في يوم القيامة. كما السخرية جادة عندما فكر بطل القصة بالبحث عن الفتيات اللواتي كنّ حبيباته أيام الشباب، ويستعلم عن أحوالهن، ولكن ما دفعه إلى العدول هو الخشية بأن يكنّ قد شاهدنه على التلفاز وعرفن ما إليه الحال، لذلك بقي كل مساء يستمع إلى أغاني أم كلثوم عبر الكاسيتات التي كن قد هدينه إياها، مغمضا عينيه ومستسلما للأحلام التي تعيده إلى زمن حكايات الشباب وتؤكد حقا نظرته أن العالم جميل لأنه هو في نفسه الجميل.
رغيف خبز
الأسلوب الذي تتبعه الكاتبة يحكي القصص بطريقة تجعل المتلقي مشدودا كي يعرف الأحداث القادمة مع السرد. ففي هذه القصة «رغيف خبز» إضافة إلى الذهنية البسيطة للشخوص، تخبرنا الكاتبة القصة وفق طريقة تفكير«ثناء» الساذجة، وكيف أن رغيف الخبز كان سببا في شق رأس زوجها «عارف» والذي يحتاج إلى عشر قطب كي يلتئم هذا إضافة إلى كسر في ذراعه، وبحسب حديثها فإن زوجها أصيب بسبب امرأة متشردة دخلت بيتها، طلبا للطعام والماء، ولكنها حرقت صورة زوجها والتهمت رمادها واختفت فور كسر رأس ويد الرجل. على حين في نهاية القصة يكون جواب الزوج للمحقق وببساطة، بأنه سقط من على السلم الخشبي الذي تعرض للرطوبة بسبب سقيفة الحمام، الأمر الذي عفّن درجاته وتفتت تحت قدميه، فسقط عنها وشجّ رأسه وكسرت يده.
قرنفل بلدي للبيع
الحدث حاضر منذ بداية القصة وهذا أمر تتميز به الكاتبة، حيث يتنامى الحدث ويتطور ومن ثم يخبو حسب رؤيتها وأفكارها، ففي هذه القصة «قرنفل بلدي للبيع» تصدّر«عاطف» القصة وكان المحور الرئيسي بها، وعبر القوة التعبيرية للكتابة، عرفنا كيف يفكر ويتصرف البطل وحتى تخيلنا حالته، بداية من زراعته وعنايته لزهور القرنفل، وقراره بأن يسوّقها للبيع في عيد الحب، بعدها ليتطور الحدث بوصف معاناته واستماتته بتأليف عبارات أو القيام بحركات تجذب العشاق-بكل الأعمار-من المارة، والذين لا ينفكون عن الاقتراب لرؤية ولمس وشم الزهور من دون شرائها. بعد أن بذل كل جهد وكل صوت وكل حرف وكل حركة، وبعد أن قرر أن يغير سعرها من عشرين ليرة إلى خمس ليرات، مع قرار صارم بأن يبيعها لا أن يرميها في حاوية القمامة، بعد كل تلك المحاولات الميئوسة، يجلس مهزوما لأن زهوره فعلت شمس الشتاء القاسية فعلها بها وبدأت بالذبول ولونها أخذ يبهت، وهنا في لحظة هذا الانكسار القاسي، يلتم حوله كل العشاق بأرتال كي يحصلوا عليها غير آبهين لمصدرها أو ما حلّ بها من ذبول في إشارة وكأن الحب الحق لا يثمّن وما يجمعه مجرد شعور سام على كل الأماكن والثقافات والمسافات بين المجتمعات.