ثقافة وفن

علم النفس الميسر.. نحو وسائل لإعطاء معنى لوجودنا

| آلاء عبد الهادي جمعة

لا أظنك ستقرأ كتاباً يشعرك بالراحة والسكينة ككتاب تقرؤه عن نفسك، عن طبيعتك البشرية التي نسيت أن تسمع صوتها منذ زمن وأخذك ضجيج الحياة منها، وفي وقت تشعر أنه بات من الضروري جداً أن تستعيد بوصلتك الضائعة وأن تستعيد نفسك رباط جأشها وتمتلك زمام أمورها، فحب الذات وتقديرها والتصالح معها وصولاً للاندماج الاجتماعي والاغتباط الطبيعي أمور محورية مهمة نحو التطور الذاتي يتناولها كتاب «علم النفس الميسر» للمؤلفة (سوزانا مكماهون) ونقله إلى العربية الأستاذ الدكتور غسان السيد منطلقاً من وعيه بمسؤوليته الثقافية وبضرورة أن يضيف لصندوقنا المعرفي كتاباً ينضوي تحت تصنيف الكتب الدارجة المعنية بالتطور الشخصي، ولا أظن أن أحداً ما سيشعر فور قراءة العنوان أنه غير معنيّ بالأمر.
تأخذ الكاتبة يدك وتجعلك تتحسس مواضع ألمك وجراحك العميقة التي لا تدري أنت أين تختبئ وما الذي يجعلها تنزف باستمرار، بسبب جهلك بالدوافع والرغبات الدفينة والكدمات النفسية التي تعصف بك من الداخل ولا صوت يصدر عنها بل تصرفات غير مقبولة وأفكار انتحارية واكتئاب مضن، ومن ثم فشل يكلل حياتنا، واضطراب علاقتنا مع أنفسنا ومع الآخرين من حولنا على كل المستويات.
بنت المؤلفة كتابها على ثلاثة وثمانين سؤالاً وجواباً، وقالت في مقدمته المهمة إنه يلخص سنواتها العشر التي قضتها في العلاج النفسي، وجعلته يمتد في أربعة فصول إضافة إلى الخاتمة، فكان في 271 صفحة في نسخته المترجمة الصادرة عن مطبعة جامعة دمشق ضمن سلسلة الأدب العلمي 2018.
تقرر المؤلفة أن كتابها مساعدة لطيفة للقارئ كي يكتشف نفسه أكثر ويهتدي لبعض الإجابات التي تؤرقه، فيقيس بعض المواضيع على نفسه إذا كان قد مر بتجارب أو اختبر مشاعر مشابهة لسبب ما، فتطرح في الفصل الأول عدداً من الأسئلة المهمة والضرورية ومنها الوجودية تحت عنوان:

«أسئلة فلسفية»
لتعالج الموضوعات الأكثر عمقاً المتعلقة بحياتنا، وفي محاولة منها لوضع القارئ بالجو العام للكتاب، والوقوف عند بعض القضايا الجوهرية التي لا بد من معرفتها قبل الاسترسال بالفصول والموضوعات اللاحقة. ومن أهم تلك الأسئلة التي تدوي في رؤوسنا جميعاً بغض النظر عن صحتنا النفسية أو عطبها، سؤال (من أنا؟) وترى أننا في جزء منا نتاج تعليمنا وتجاربنا، وفي جزء آخر نتاج آمالنا، ونجاحاتنا وفشلنا، وفي جزء ثالث، نتاج فعل قوة علوية أو حيوية. وعن سؤال (ما معنى الحياة؟) ترتئي أن الطريقة الوحيدة لمقاربة هذا السؤال بطريقة علاجية، وليس فلسفية، هو بجعله شخصياً، فهو مفهوم ذاتي بعمق على كل شخص تحديده، لن يأتي من الخارج ولا هو موجود عند الآخر.
أما سؤال (لماذا الحياة ليست عادلة؟) فتجيب: «الحياة ليست عادلة لأن العدالة تتطلب حكم قيمة، وذاتياً، وبصورة أساسية: يتغير قرار الحكم بحسب الشخص الذي يقيم الوضع، واللحظة التي يتخذ فيها الحكم».
وفي حديثها عن الآلام ترى أن البطل هو من يقبل الألم، ويعلم أنه لا يستطيع تغيير شيء فيه، ولكنه يستمر في مواجهة الرياح والأمواج بكل قوته، اعترافاً منه بأن الألم جزء من الحياة وهو مطية يعلوها من أجل النضوج والتقدم وصقل الذات، كما ظاهرة الخوف التي يجب الاعتراف بها ومواجهتها بشجاعة وقوة، من دون نقد، فبمقدار ما نترك الخوف يشلنا، فإنه يسيطر علينا. وفي سياق الحديث عن الماضي والمستقبل ترى أنه من العبث أن نظل شاخصين إلى الوراء نجتر آلام الماضي ونتحسر على ما اقترفته أيدينا، ونكيل اللوم على أنفسنا وعلى الآخرين من دون جدوى، فما حصل قد انتهى. يجب أن نستعيد الماضي بآلامه بعين ملؤها الرضا، فماضينا هو جزء منا ومن شخصيتنا لذا علينا تمجيده واستخدامه لمصلحة الحاضر الذي نمتلكه بقوة وهو الحقيقي الآن بكل مفرداته، فمن لا يمتلك لحظته، لا يشعر بقيمة الحياة ولا يتصل بجوهرها، فلا تجعل حاضرك يفلت من يدك اقبض عليه بكل وعي، وانظر للمستقبل أنه قادم لك بما تستحق وبما تزرعه الآن، من غير أن تنغمس في التخطيط له وتنسى حاضرك. وعلى ضوء الخلفية الجامعة التي أرادتها سوزانا لهذا الكتاب وهي فلسفة بسيطة حول الطبيعة البشرية تقول إننا في أصل التكوين طيبون، والكمال موجود فينا منذ البداية، ليس علينا فعل شيء لاكتسابه، ويجب علينا الإيمان بالذات والثقة بهذه الطبيعة البشرية التي هي طيبة في الأصل، فللقلق وتأنيب الضمير دور في جعلنا غير مرتاحين من أنفسنا، ويعطلان نشاطنا، ويمنعاننا من توظيف قدراتنا بالشكل الأمثل، ونصبح نمارس فعلاً تدميرياً على أنفسنا، فنحن لسنا أشخاصاً سيئين، الشر أمر عارض واختياري ما لم نمارسه بعناد، فيجب علينا أن نكره الخطأ لا الشخص المخطئ، ولا أن ندخل في حلقة مفرغة من تأنيب الضمير واجترار الذات.

«تعريف المفاهيم»
في الفصل الثاني تعالج المؤلفة نظرياً وعلمياً، محور هذا الكتاب وهو الطريقة التي من خلالها نصل إلى تقدير ذواتنا والشعور بالرضا من أعماقنا، كي نكون أكتر توازناً وصحة نفسية ونحظى بعلاقات سليمة مع الآخرين، فالنموذج الغربي الذي تشير إليه الكاتبة في أكثر من موضع والذي يعتبر مؤسساً وعاملاً مهماً لتكوين العقل الجمعي الغربي وتنميطه في قالب محدد، يصب اهتمامه على المظاهر ويربط تقدير الذات بما تحققه من مكاسب مادية وشهادات علمية وسلسلة من النجاحات الشكلية فحسب، ولا يضع في بؤرته أي قيمة أو اعتبار للذات الإنسانية المتفردة بجوهرها، ويجعلنا نلهث وراء السراب ظانين أن السعادة تكمن في الماديات فقط وعندما نعي حقيقة هذا السراب يكون الأوان قد فات وأزهقنا العمر في الطريق الخطأ، على أهمية هذه الشكلانيات إلا أنها لا تأتينا بالسعادة والرضا، فما قيمة الحياة إن كسبنا مظاهرها البراقة وخسرنا أنفسنا؟ وفي سياق متصل تنبه (مكماهون) أن تقدير الذات لا يعني الأنانية والنرجسية ولا فارق بينهما بل فويرقات يجب التنبه لها، وندرك أيضاً أن تقدير الذات لن نصل إليه أبداً، فهو ليس هدفاً، وليس سلعة: إنه سيرورة. ويبدأ من الاتفاق مع الذات والوعي بعيوبها وميزاتها من غير جلد لها، وأن نستحضر ذاك الطفل الكامن فينا، ونصخي له السمع فهو أمين المخزن الذي بيده مفاتيح مخزن مشاعرنا وانفعالاتنا لا يسلم مفاتيح المخزن للراشد الذي نكونه مادام يشعر بعدم تلبية حاجاته الأمومية. وعند الاعتراف بآلامه وتفهمها ونتقبله كما هو نستطيع تجاوزه نحو النضوج والشفاء ويرقد هو بسلام.

«أسئلة فردية»
يغطي هذا الفصل مجموعة من الأسئلة التي تلامس قضايا شخصية ومشاكل فردية هي من الأهمية بمكان لكونه يعاني منها جميع المرضى والمكتئبين وبعض من يدعون الصحة النفسية، ومن أكثر الأسئلة اللافتة وأقربها للتعميم هو (لماذا كان انتقادي كثيراً؟) وفي الإجابة عنه تقول: «عندما نقبل حقيقة أننا لسنا في مأمن من الأحكام والنقد، فإن عدم إحساسنا بالأمان سيتضاعف، وستظهر الآليات الدفاعية النفسية، وبذلك نصبح أكثر نقداً. وستصبح الحلقة مفرغة أكثر وسنغرق في حالة من عدم الإحساس أسوأ من الحالة الأولى. يشكل الحكم على الناس والحكي بسوء عنهم، وذمهم، وترويج الإشاعات الكاذبة عنهم، ومقارنة النفس معهم. وإظهار السلبية اتجاههم، عوامل مهمة للإحساس بالعجز».
وتوضح في هذا الفصل أن الاكتئاب بالمجمل قد يكون نتيجة عوامل مختلفة (وراثية، أو فيزيولوجية، أو ردة فعل على وضع أو حدث…) «يأتي الاكتئاب عندما يتحول الغضب إلى أنفسنا، ونشعر بصورة عامة، أننا مهزومون مسبقاً. يحل الاكتئاب عندما يبدأ إدراكنا للواقع ويتطابق مع الرؤية التشاؤمية التي نخلقها نحن اتجاه أنفسنا واتجاه الآخرين. إننا نغرق في الاكتئاب عندما نشعر بالإحباط، وغياب السند، ونكون في المقابل مستعدين لقبول فكرة أننا سيئون. يرد الأشخاص الحساسون، باستمرار، على جنون العالم عبر تخزين التصورات السلبية في داخلهم، ما يؤدي إلى إغراقهم بالاكتئاب».

«أسئلة علاقاتية»
تفرد (سوزانا) الفصل الأخير لطرح بعض الأسئلة العلاقاتية المهمة التي تأتي في الدائرة الأوسع في التعامل بعد ذواتنا والتي تتأثر بشكل كبير بطبيعة علاقتنا مع ذاتنا وكيفية نظرنا إليها ومدى الاهتمام بها وإشباع حاجاتها، فتوضح المؤلفة أنه لا يمكننا أن ندخل في علاقة زوجية ناجحة ما لم نستطع احترام ذواتتا بالبداية وشعورنا بامتلائها فالآخر ليس مكملاً لنا ولا عكازة لذاتنا العرجاء بل هو شخص منفصل له كينونته التي نحترمها ونعطيه مساحة من الحرية والتعبير عن ذاته بكل استقلالية بعيداً عن التملك والغيرة المدمرة التي تقتلع الحب من جذوره ونجعله شريكاً بالتبعية. «الأزواج السعيدون ليسوا دائماً ملتصقين أحدهما بالآخر، وهم غير متوافقين في كل شيء، ولا يقولون كل شيء لبعضهم. إذا كانت هذه هي الحالة فإن مثل هذه الاتحادات ستصبح بسرعة، مرهقة ومملةً».
وأشارت إلى قانون الجذب في كونه يأتينا بما نستحق وبالأشخاص الذين أقرب ما يكونون نسخة عنا، فلذا علينا ألا نسعى وراء شخص كامل بل أن نجعل من أنفسنا أشخاصاً نستحق الكمال، وتعرج أيضاً الكاتبة على أهمية الجنس في الحب وأهمية التوافق بين الشريكين على جميع الأصعدة من أجل تحقيق علاقة متناغمة قدر الإمكان يحقق فيها كل فرد ذاته، ونحافظ على الاتصال النوعي الذي ليس بالضرورة أن يكون في كثرة الكلام والنق إنما بفن الاستماع، فالاندماج الاجتماعي امتداد لتقدير الذات نحو الآخر ويثير بالتالي الازدهار والتطور.

«الخاتمة»
توضح المؤلفة في الختام أن الاغتباط الطبيعي هو النتيجة النهائية لتقدير الذات، والاندماج الاجتماعي. فتشعر أنك على علاقة مع الكون كله، وأنك جزء لا ينفصل عنه، حيث يصف البعض أيضاً هذا الإحساس بأنه «الإحساس بالله» وعندها نلمس لمس اليد كم أن طبيعتنا البشرية طيبة، وربانية في نهاية الأمر.
جملة من الأحاسيس في الحقيقة تشعر بها فور انتهائك من الكتاب، خفة تطير بك وكأنك قد تطهرت من براثنك للتو، فقد وضعتك المؤلفة في جلسة علاجية في كتابها من حيث لا تشعر، وحلت عقداً ومشاكل وأجابت عن أسئلة ما كنت لتلاحظها من قبل، تدل على حذاقة المؤلفة، وخبرتها في مجال العلاج النفسي والسمو به من كونه مهنة ترزق منها إلى قيمة إنسانية راقية مؤطرة في كتاب بسيط مختصر لا يُمل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن