أميركا التي تَكذب حين تُكذب
| أحمد ضيف اللـه
بين النفي والإثبات وتعدد الروايات، أثار لغز هروب رتل كبير لتنظيم داعش من مدينة الفلوجة، ضم المئات من الآليات المدججة بمختلف صنوف الأسلحة الثقيل منها والمتوسط، ليل الـ28 من حزيران 2016. الكثير من الشكوك والتحليلات المتباينة بشأن حقيقة ما جرى، طارحة الكثير من التساؤلات، عن كيفية خروج هذا الرتل الكبير من مدينة الفلوجة المحاصرة، وفي ذروة معركة استعادتها، حيث كان كل شيء تحت المراقبة الأميركية من الأرض والسماء؟ خاصة بعد البيان التوضيحي الذي أصدرته قيادة العمليات المشتركة في الـ30 من حزيران 2016، التي بينت فيه أن «القوة الجوية العراقية دمرت 96 عجلة» من الرتل الهارب. والحديث الذي أدلى به الفريق أول حامد المالكي قائد طيران الجيش في مؤتمر صحفي نشره موقع وزارة الدفاع بتاريخ الأول من تموز 2016، عن «رتل مكون من 700 سيارة كان يتحرك على مسافة طولها 11كم».
وقد أشار حاكم الزاملي رئيس لجنة الأمن والدفاع النيابية في تصريح لصحيفة «الشرق الأوسط» الصادرة في الأول من تموز 2016، إلى أن «الجانب الأميركي لم يشارك في عملية ملاحقة هذه الأرتال»، مؤكداً أن «الجانب الأميركي رفض استهداف الأرتال، بحجة أن فيها مدنيين، وأن هذا يخالف قواعد الاشتباك المعمول بها لديهم».
إن الوثائق المدعمة ببعض الصور الفيلمية عما جرى، تشير إلى أن رتل تنظيم داعش الكبير سلك طريقاً وعرة تدعى «صحراء الجفة» متوجهاً إلى داخل الأراضي السورية، وأنه كان من بين الهاربين مقاتلون من الكتيبة الأوزبكية التي تسمى «جيش دابق» وهي من أشرس كتائب تنظيم داعش، إضافة إلى أعداد كبيرة من المقاتلين الأجانب والمحليين المحترفين، بينهم ضباط كبار من فدائيي صدام والحرس الجمهوري السابق.
إن ما يمكن تأكيده وفق الوقائع والمعطيات آنذاك، أن عناصر من عشيرة البو عيسى (السنيّة) هي من شاهدت الرتل أولاً، وفيه قادة من تنظيم داعش يعرفونهم، وآخرين ممن قَتل بعض أبنائهم. وقدموا هذه المعلومات إلى الطيران العراقي، الذي هو من بدأ بقصف الرتل، بإمكاناته المحدودة، في ظل ظروف جوية سيئة.
وأن سلاح الجو الأميركي الذي رفض التعرض لهذا الرتل، بحجة أنه رتل مدني! تدخل شكلياً لاحقاً، بعد قيام سلاح الجو العراقي بالقصف، من دون أن يقوم بملاحقة الرتل لتدميره كاملاً، وهو يملك القدرات القتالية والفنية لتنفيذ ذلك. ما يعني أن تصريحات السفير الأميركي في بغداد ستيوارت جونز، بأن «طائرات التحالف الدولي اكتشفت رتل تنظيم داعش قرب الفلوجة، واستهدفته»، كانت كاذبة ومُظللة.
وبتاريخ الـ18 من شهر حزيران الجاري، قالت هيئة الحشد الشعبي في بيان لها: إن طائرة أميركية قامت «بضرب مقرٍ ثابت لقطعات الحشد الشعبي من لوائي 45 و46 المدافعة عن الشريط الحدودي مع سورية بصاروخين مسيّرين، ما أدى إلى استشهاد 22 مقاتلاً وإصابة 12 آخرين»، موضحة أن «قوات الحشد الشعبي على الشريط الحدودي منذ انتهاء عمليات تحرير الحدود»، وأنه «بسبب طبيعة المنطقة الجغرافية، لكون الحدود أرضاً جرداء، فضلاً عن الضرورة العسكرية، فإن القوات العراقية تتخذ مقراً لها شمال منطقة البوكمال السورية التي تبعد من الحدود 700 متر فقط كونها أرضاً حاكمة تحتوي على بنى تحتية، وقريبة من حائط الصد حيث الإرهاب الذي يحاول قدر الإمكان عمل ثغرة دخول الأراضي العراقية، وهذا الوجود بعلم الحكومة السورية والعمليات المشتركة العراقية».
وبالتزامن مع ذلك قام طيران التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، بشن غارة على موقع للجيش السوري في بلدة الهري جنوبي شرقي البوكمال، «ما تسبب في سقوط عدد من القتلى والجرحى».
وعلى حين عبرت وزارة الخارجية العراقية «عن رفضها واستنكارها للعمليات الجوية التي تستهدف القوات في مناطق محاربة داعش، سواء كانت في العراق أو سورية أم أي مكان آخر في ساحة مواجهة هذا العدو الذي يهدد الإنسانية»، معتبرة أنّ «أي استهداف لهؤلاء المقاتلين بشتى مسمياتهم ومواقع قتالهم هو دعم لداعش ومساعدة له على التمدد ومحاولة تنظيم صفوفه مِن جديد».
نفت القيادة المركزية الأميركية مسؤوليتها عن الغارة، مؤكدة أنه «لم يُنفذ أي فرد في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضربات قرب البوكمال»، كذلك قال المتحدث باسم البنتاغون أريك باهون: إنه «لم تشن الولايات المتحدة أو التحالف الضربة»، كما قال السفير الأميركي لدى بغداد دوغلاس سيليمان في بيان له: إن «القوة الجوية الأميركية غير مسؤولة عن الهجوم الذي طال بعض الفصائل العراقية في سورية»، مؤكداً «عدم وجود أي نشاط جوي أميركي في المنطقة»، على حين أعلن مسؤول أميركي في واشنطن لاحقاً، أن الولايات المتحدة «لديها أسباب تدفعها للاعتقاد بأنّ إسرائيل هي التي شنت الغارة».
ما من شك، أن الولايات المتحدة الأميركية وتحالفها يكذبان كعادتهما بشأن مسؤولية الغارات التي تستهدف القوات السورية أو قوى الحشد الشعبي، فما دامت الولايات المتحدة الأميركية هي المسيطرة على أجواء المنطقة، فمن غير المعقول ألا تعرف من قام تحديداً بالغارة، إن لم تكن هي من نفذ الضربة، وبخاصة أن خبيراً في سلاح الجو صرح لفضائية «الحرة» الأميركية بأن المهمة التي يُعتقد أن الطيران الإسرائيلي قد نفذها صعبة وتحمل تعقيدات لوجستية كبيرة لأن مقاتلاته كان عليها التحليق مسافة 560 كيلو متراً لتنفيذ ضرباتها قرب البوكمال.
لقد قامت قوات التحالف الأميركي، وعلى مدى سنين، بالتعرض للقوات العراقية والحشد الشعبي وللمدنيين مرات عدة، نافية في كل مرة مسؤوليتها عن ذلك، أو في أحسن الأحوال الادعاء بأن ما حصل كان بالخطأ، وكان من أبرزها قيام القوات الأميركية فجر الـ7 من آب 2017، بقصف مواقع قوات «كتيبة سيد الشهداء» التابعة للحشد الشعبي، داخل الأراضي العراقية، في منطقة جمونة الإستراتيجية قرب التنف، التي سبق لقوات الحشد الشعبي أن قامت بتحريرها من تنظيم داعش قبل حوالى شهر ونصف الشهر، ما أسفر عن استشهاد 36 مقاتلاً، وإصابة نحو 75 آخرين، وقد أعقب القصف المدفعي الأميركي الكثيف بـ«المدفعيّةِ الذّكيةَ»، قيام تنظيم داعش بمهاجمة المواقع التي تعرضت للقصف بعدد كبير من السيارات المفخخة، مستغلاً تأثير القصف الأميركي، وقد نفت القوات الأميركية مسؤوليتها عن القصف!
كذلك استهدفت طائرة أميركية في الـ27 من كانون الثاني 2018، قوة أمنية عراقية وسط بلدة البغدادي في محافظة الأنبار، كانت عائدة من عملية مداهمة ناجحة في اعتقال أحد القيادات الإرهابية المهمة، وهو كريم عفات علي السمرمد الذي كان يعقد اجتماعاً مع خلية إرهابية لتنفيذ عمليات إرهابية تستهدف مواقع مدنية وأمنية في المحافظة، ما أدى إلى استشهاد ثمانية أشخاص معظمهم من قوات الأمن العراقية، وجرح نحو عشرين آخرين بينهم مدير ناحية البغدادي شرحبيل العبيدي، ومدير شرطة الناحية العقيد سلام العبيدي، وادعت القوات الأميركية هذه المرة أنه كان «خطأ غير مقصود».
ليس غريباً أن تقوم الطائرات الأميركية والتحالف الأميركي باستهداف القوات العراقية وقوات الحشد الشعبي وأبناء العشائر وحتى المدنيين داخل الأراضي العراقية وعلى الحدود العراقية السورية، وحتى ضمن الأراضي السورية، حيث باتا القوة الجوية المساندة لتنظيم داعش كلما ضاق الخناق عليه، نافية وقوع الغارة مرة، ومتذرعة أنها كانت خطأً غير مقصود مرة أخرى، كرمي الأسلحة «بالخطأ» من الجو لتنظيم داعش أثناء عملية تحرير محافظة الأنبار وصلاح الدين.
إن الولايات المتحدة الأميركية تعمل على مناقلة العناصر الإرهابية لتنظيم داعش بين سورية والعراق، لإدامة الأزمة والأجواء الإرهابية في كلا البلدين، وهي تحاول بكل طاقاتها وأدواتها منع أي تقدم للقوات السورية أو العراقية نحو الحدود المشتركة بينهما للحيلولة دون التقائهما، لأن واشنطن تعي جيداً معنى هذا الالتقاء وماذا سيتمخض عنه؟ إلا أنه سيحصل، وستدفع القوات الأميركية تحديداً في النهاية أثمان غاراتها المنفية، أو تلك التي وقعت بالخطأ بحسب بياناتها، غالياً، فيد المقاومة قادرة على أن تطول أي نقطة من ساحة المواجهة مع محتلي أراضي محور المقاومة، من الإرهابيين أو داعميهم، في الوقت والمكان المناسبين.