اللغة العربية بين التشدد والتيسير
| سارة سلامة
إن لغتنا العربية لغة غنية تتطور-كغيرها من اللغات- وفق قوانينها وضوابطها الخاصة، وإذا كان بعضنا يرى في هذا التطور خروجاً عن معيارية صارمة، فإن التأمل والتروي وحسن المحاكمة والبحث تفضي –غالباً- إلى أن ما تحمله لغتنا من خصائص ومزايا يسوغ معظم ما آل إليه التجديد اللغوي، ولا خوف عليها لأنها لغة تحمل في ذاتها عوامل بقائها وتجددها.
حيث صدر عن وزارة الثقافة -الهيئة السورية للكتاب، وعن سلسلة قضايا لغوية كتيب بعنوان «اللغة العربية بين التشدد والتيسير»، للدكتور ممدوح محمد خسارة، الذي تناول فيه الرغبة في الإسهام بجسر الهوة بين التشدد والتيسير، هذه المسألة، وغيرها، من مشكلات العربية المعاصرة والموقف من العامية والفصحى، ومن تعريب التعليم وتغريبه، واحتوى الكتيب على فصلين:
الأول: يتحدث فيه عن التطور اللغوي بين التشدد والتسامح، والدعوة إلى مصالحات بين دعاة كل منهما، وذلك بالوقوف على كلمة قدرنا أنها سواء.
والثاني: عن جهود مجامع اللغة العربية في التيسير اللغوي، ممثلة بمجمعي دمشق والقاهرة اللذين كانا أرحب صدراً في قبول الكلم الجديد وتسويغه.
في تطور دائم
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب: «إن اللغة العربية في تطور دائم كغيرها من اللغات الحيّة، وذلك كي تستطيع مواكبة العصر الذي تعيش فيه بمتطلباته التواصلية والتعبيرية، ويتحقق هذا التطور بتوليد كلمات جديدة على أبنية لم ترد من قبل، من مثل: (باهت، وبخاخ، وغامق، وتوصيف)، أو جمع كلمات على أبنية لم تجمع عليها من قبل كقولنا: بؤساء جمعاً لبائس أو زهور جمعاً لزهرة أو نوايا جمعاً لنية.
أو جمع كلمات لم تجمعها العرب كقولهم: (أنشطة)، جمعاً لنشاط، إذ إن القدماء لم يجمعوا المصادر الثلاثية غالباً، أو صوغ مصدر على غير ما صاغته العرب نحو (استبيان)، إلى جانب (استبانة). كما يتحقق بوضع مئات آلاف المصطلحات العلمية، إلا أن هذه الأبنية المحدثة والدلالات الجديدة لم تكن دائماً موضع قبول من جميع اللغويين والنقاد، إذ انقسموا إزاءها فريقين: أحدهما: يستمسك بالتشدد، والتضييق أمام كل جديد، تخوفاً من أن يضعف ذلك حقيقة اللغة، أو يزعزع ثوابتها.
وثانيهما: يأخذ بالتسمّح والتيسير أمام هذا الجديد، ويرى أن في خصائص اللغة العربية ما يجوّز الكثرة الكاثرة مما يولده أبناؤها للوفاء بمتطلبات التواصل اللغوي المعاصر والسليم».
بين التشدد والتسامح
حيث تناول في الفصل الأول من الكتيب مسألة «التطور اللغوي بين التشدد والتسامح»، وأن الاختلاف في النظرة إلى الأمور والقضايا تحليلاً وتعليلاً من طبائع الأشياء ومن سنن الحياة، ولكن الاختلاف– وهو شيء مشروع وطبيعي- يمكن أن يهدأ ويقيد فيفضي إلى تعايش وتوافق، كما يمكن أن يصعد إلى نزاع فصراع، إلا أن ذينك الأمرين: التهدئة والتصعيد، ليسا عفويين، بل هما غالباً حصيلة جهد ثقافي تمارسه الأطراف المعنية بالأمر، على أمل أن يصب البحث في إطار جهود التهدئة والتوافق لا التصعيد، والتصارع بين أبناء العربية أو متكلميها، ولم يدر في خلدنا أن أي جهد توفيقي، مهما علا كعبه من العقلانية، والموضوعية، والتسمّح، قادر على إزالة الخلاف، لأنه كما قدمنا سنّة، وقصاراه أن يلجمه عن أن يتطور إلى تناحر، وإذا كنا نلحّ على نهج المصالحة فذلك لأننا نؤمن بأنه إذا كان النزاع عرقلة للتقدم نحو الأفضل فإن الصراع مقتلة له.
وكان من الطبيعي أن تخضع اللغة العربية وهي مع العقيدة ركنا الأمة وجناحا حضارتها لناموس الحياة في الخلاف والاختلاف، ولاسيما أن اللغة العربية أم لجميع العرب، وهم شركاء في ميراثها، فكما لا يجوز لبعض الأبناء ادعاء الإرث المادي لأبيهم من دون إخوتهم، كذا لا يجوز لنفر من أبناء اللغة أو متكلميها ادعاء ملكيتها، والحجر على الآخرين في حقهم في المشاركة والنظر فيما يرونه من صلاح شأنها أو صلاح شأن المتلاغين بها.
جهود مجامع اللغة
وتناول في الفصل الثاني مسألة «جهود مجامع اللغة العربية في التيسير اللغوي»، حيث أدى تطور أساليب التعبير في العصر الحديث إلى ظهور كلمات جديدة من أفعال وأسماء بدلالات محدثة أو على أبنية مستحدثة لم ترد في كتب الصرف، وكان للغويين وأساتذة اللغة في الجامعات مواقف متباينة منها، فبعضهم وافق على صيغ الاستعمالات الجديدة، وبعضهم عارضها بدرجة أو بأخرى، فكثرت مصنفات التصحيح اللغوي حتى أربت على الخمسين كتاباً ومعجماً، وهو ما أدى إلى بلبلة لغوية، أضيفت إلى مشكلات اللغة العربية المعاصرة، فيما يعده لغوي صحيحاً، أو ما يقره أستاذ جامعي، يعارضه زميله فيه، وقد تصل المعارضة إلى حد التلاسن، وإلى انقسام في طلبتهم تعصباً غالباً، فكان لا بد من قيام جهة علمية حيادية ومسؤولة، للنظر في الأوضاع الجديدة الشائعة والخلافية، وإقرارها ما يصحّ وتقبله اللغة منها، وردّ ما لا سند له في أصول اللغة وقواعدها.
ولا شك في أن أولئك المصححين اللغويين يستحقون الشكر على ما بذلوه من جهد، أصابوا فيه أم أخطؤوا ولكن الجهود الفردية -على قيمتها- قد لا تبلغ من الدقة والعلمية والاستقصاء ما يتوفر للجهود الجماعية المؤسسية، ونعني بها مجامع اللغة العربية في الوطن العربي، ولاسيما مجمعي دمشق والقاهرة اللذين جعلا من دراسة الألفاظ والأساليب والتراكيب المولدة والإفتاء فيها، من مهامهما الرئيسية.
ومن الملاحظ أن هذين المجمعين كانا أقرب إلى التيسير والتسمّح منهما إلى التشدد والتعصّب، وما ذلك لرغبة في التسهيل ولموافقة الجديد الشائع من الكلم، بل انطلاق من أصول اللغة العربية، وتفعيل لخصائصها في التوليد اللغوي والتنمية اللغوية.