دمشق بين الغزل الفرنسي والثبات الروسي: لا تراهنوا على الصفقات
| فرنسا- فراس عزيز ديب
في حديثهِ بالأمس مع القناة الرابعة البريطانية قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف: الرئيس بشار الأسد يُدافع عن سيادةِ بلادهِ وأراضيها، وعن المنطقة برمّتها في وجهِ الإرهاب. ربما يعي السيد لافروف أن تكرار هذه العبارة تحديداً للمتلقي البريطاني هو بالنهاية أشبهَ بهدفٍ مونديالي جميل يُسجله لاعبٌ ما في الدقائق الأخيرة، لكنها بذات الوقت تبدو كرسالةٍ أشبهَ بقطعِ طريقٍ تتجاوز تشظياتها العلاقة شبه المتوترة مع بريطانيا، ليصل نحو تحديد المسموح والممنوع في الثوابت الروسية بما يتعلق بالملف السوري، تحديداً في ظل حالة الكمون الدبلوماسي الذي يبدو وكأنهُ الهدوء الذي يسبق العاصفة، عاصفة هذا الشهر ستكون ربما هي الفصل في كل الملفات العالقة، ولكي نستطيع استقراءَ نواتجها لابد من النظر إلى ثلاثةِ أحداثٍ متفاوتةٍ في الأهمية لكنها تلتقي عند نقطةٍ واحدة: الجنوح نحو السلم.
الحدث الأول، قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعيين السفير الفرنسي في طهران فرنسوا سينيمو مُمثلاً شخصياً له في سورية، إذ إن التعاطي مع هذا القرار لا يبدو أنهُ مرتبطٌ فقط برمزيتهِ السياسية المتعلقة بوجهةِ النظر الفرنسية الرافضة لوجودِ سفارات متبادلة ورفع الراية في معاقبتها الاقتصادية لما يسمونه «النظام السوري»، ودعمها للعدوان الإرهابي والدولي على سورية، لكنه في الشكل يحمِل العديدَ من الرسائل الهامة، فالسفير سينيمو ليس بالشخصيةِ الدبلوماسية العادية لأنه وقبل تعيينهِ سفيراً في طهران ومع وصولِ الرئيس السابق فرانسوا هولا ند، شغلَ منصبَ المدير العام للاستخبارات الخارجية، هذا الجهاز الذي كانت له رؤية مختلفة عن الرؤية الفرنسية المتمثِّلة بوزارة الخارجية والمُسيطَر عليها من قبل الرئيس هولاند تتلخص بعبارة: إغلاق السفارة أمر خاطئ، و«النظام السوري» أفضل من وصول المتطرفين. يومها انتصرت كلمة الرئيس هولاند الذي سحبَ الملف السوري نهائياً من أيدي الأجهزة الأمنية وجعلهُ محصوراً بوزارة الخارجية ممثلة بالسيئ الذكر لوران فابيوس. من جهةٍ ثانية فإن وجود فرنسوا سينيمو كسفيرٍ لفرنسا بمهامه التي ستنتهي في آب القادم بدولةٍ كإيران يعني أنه على تواصلٍ مع ما يسمونهم «حلفاء النظام السوري» وهو ما سيشكل قيمةً مضافة لهذا التعيين، فالسفير هو الذي شهد على عودة الانفتاح الأوروبي على طهران بعد توقيع الاتفاق النووي ولعل التمسك الفرنسي بصفقةِ النووي بعيداً عن الرفض الأميركي، يعود لقدرته على إقناع القيادة الفرنسية بأن جزيرة الكنز الإيرانية لا يجب التفريط بها، من هنا يبدو أن هذا التعيين لا يدخل حكماً في إطار سعي الرئيس الفرنسي لتسجيل المواقف والتغريد خارج السرب الأميركي، هو فعلياً يجهز أرضية لانفتاحٍ ما على سورية، هذا الانفتاح يحتاج لشخصٍ يمتلك عقلية أمنية بأسلوبٍ دبلوماسي، هي محاولة فرنسية للالتزام بالحد الأدنى «مبدئياً» بشروط القيادة السورية لضمان التعاون الأمني، تحديداً أن الفرنسيين يملكون السطوة على الاتحاد الأوروبي ما يمهد ربما لمزيد من الانفتاح الأوروبي على دمشق، هذا إن كان الأمر أساساً بحاجةٍ لتمهيد كون الكثير من الدول الأوروبية لم تلتزم بالمقاطعة الدبلوماسية لسورية، أما النقطة الأخيرة فهي متعلقة بالإرهابيين من أصولٍ فرنسية الذين تم اعتقالهم في سورية، هؤلاء تمكنت فرنسا من استعادةِ بعضهم تحديداً ممن وقعوا بيد ميليشيا قوات سوريا الديمقراطية «قسد»، لكن فرنسا لا تزال تبحث عن أقرانهم المعتقلين لدى القيادة السورية، القضية هنا ليست بالسهولةِ المفترضة لأن الفرنسيين كانوا ولا يزالون يتوسطون لمجردِ الحصول على معلومات عنهم، لكن كل الطرق لا تزال مسدودة إذ إن طلب استعادتهم «إن وُجدوا» يجب أن يمرّ عبر الأروقة الدبلوماسية المقطوعة أساساً، فما الحل؟ الحل ربما سيكون عرَّابهُ السفير فرنسوا سينيمو، وهو ببساطة قائم على احترام ثوابت السياسة الخارجية السورية.
أما الحدث الثاني فهو المتمثل بإصرار القيادة السورية على إنهاء ملف الجنوب السوري، بل إن تهاوي إرهابيي «معقل الثورة» كما يسميها إعلام البترودولار بهذه السرعة، وإسراع شرفاء حوران من الذين احتجزتهم الجماعات الإرهابية كرهائن تحت الطلب لاستقبال قوات الجيش العربي السوري بهذه الروح الوطنية المتوثبة توحي بأن ملف درعا أسهل بكثيرٍ مما ظنهُ البعض، لكن في المقابل درجت العادة عند حدوث أي تقدمٍ لقوات الجيش العربي السوري فإن ردة الفعل المعادية تنحصر في أمرين، إما زيادة التباكي الإعلامي على المدنيين وصولاً لابتداعِ كذبةٍ كيميائية ما، أو محاولةَ تمريرِ إشاعات بأن ما يجري هو بالنهاية صفقة عقدتها الدول الكبرى لضربِ وتقزيم تضحيات الجيش العربي السوري والحلفاء، اليوم وبما يتعلق بالجنوب تحديداً فإن كلا الأمرين لم يحدثا بل من الواضح أن الإصرار الأميركي على النأي بالنفس والإيعاز للأردن بذات الأمر يوحيان بأن كل الأمور تسير وفق مايريده الجيش العربي السوري وصولاً للمصالحات، مع التذكير دائماً لو أن هناك صفقة ما فلماذا يخسر الجيش العربي السوري شهداء؟! ربما إن الانكفاء عن إنقاذ إرهابيي الجنوب ناتج عن الرسائل التي تلقاها المعنيون بأن معركة الجنوب بالنسبة للقيادة السورية مصيرية حتى لو أدت لحربٍ إقليمية، إن هذا التقدم الكاسح جعل الجميع اليوم يدرك أن قطعان الوهابية والسلفية لم يعد لديهم ما يمتلكونهُ على الأرض، بل إن استكمال السيطرة على الجنوب السوري سيعني حكماً أن الأنظار ستتجه لإدلب، هناك حيث بشّر رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان حلفاءه بأن التوغل في الأراضي السورية سيستمر. يعلم الجميع أن كل ما يقولهُ أردوغان بالنهاية مجرد حديثٍ في الهواء، بل إنه اليوم بأشد الحاجة للاستفادة من درس الجنوب الذي صاغته القيادة السورية وهي التي كانت تلعب على حافةِ الهاوية للتدرج نحو مواجهةٍ إقليمية شاملة، ستكرر السيناريو ذاته في إدلب وما تبقى من ريف حلب الشمالي بعد انتهاء مهلة مناطق خفض التصعيد، عندها سيكون أمام أحد خيارين، إما أن يواجه الجيش العربي السوري وعندها عليه أن يتحمل تبعات ذلك، أو أن يترك ثواره لمصيرهم عندها سيخرج من المولد بلا حمص، فهل تكون مسألة خروج أردوغان من اللعبة السورية قضيةَ وقتٍ لا أكثر؟!
أما الحدث الثالث فهو المتمثل بالزيارة التي قام بها مستشار الرئيس الأميركي لشؤون الأمن القومي جون بولتون إلى روسيا، هذه الزيارة تركت انطباعاً أن ما تجسد من استقرارٍ ولو كلامياً حتى الآن بعد قمة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والرئيس الكوري الديمقراطي كيم جونج أون يمكن أن ينسحب على قمة سيتم عقدها بين الرئيسين دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين، مع فارقٍ بسيط أن الحالة الكورية لم تحمل ملفاتٍ متشابكة، أما هنا فإن الخلاف الروسي الأميركي ليس على ملف، بل إن أساس الصراع هو تشابك الملفات التي عِقْدتها سورية، وعليه فإن القمة القادمة التي ستنعقد في منتصف الشهر الحالي قد تحمل الكثيرَ من المفآجات تحديداً بعد الغزل الترامبي بروسيا، ونجاح روسيا بتنظيم المونديال الذي كرَّس صورة إعلامية ليست مسبوقةً عن روسيا كدولةٍ تختلف جذرياً عما يشيعهُ عنها أعداؤها، فماذا ينتظرنا؟
فرضَ الحديث عن صفقةِ القرن نفسهُ على جميعِ الجبهات، لكن في الإطار العام ربما هناك مبالغة في التعاطي معها باعتبار أن صفقة القرن إن تمت تُخرج الفلسطيني نفسه من مسألة الصراع العربي الإسرائيلي تماماً كما أخرجت باقي صفقات الذل والعار مصر وشرقي نهر الأردن من الصراع، لكنها بالنهاية لن تُخرج اللبناني المتمسك بما تبقى له من أراضٍ محتلة، ولن تخرج السوري الذي لديه أراضٍ محتلة، ومن ثم إن صفقة القرن هي تصفية داخلية لقضيةٍ هي بالأساس تحتضر بفضل من خانوها، لكنها لا يمكن أن تكون سبباً للمساومة هنا وهناك، وبمعنى آخر لا يمكن مبادلة صفقة القرن بالملف السوري كما يشيع البعض، لأن الروسي أساساً لا يبدو أنه سيعارضها إن كان الفلسطينيون أنفسهم بمن يمثلهم سيوافقون عليها ويوقعون عليها مع العلم أنهم وقعوا على ما يوازيها سوءاً، بل ربما يتم تبنيها ولو شكلياً في جامعة الذل العربية، لكن في المقابل لا يبدو الأميركي اليوم يمتلك القدرة على المناورة بل إن زيارةَ بولتون بالتحديد تدفعنا للاعتقاد أن هناك نقاطاً تم الاتفاق عليها وتنتظر قمةَ الرئيسين لتصديقها وإن كان من الصعب استقراء هذه النقاط إلا أننا متيقنون من فرضية أساسية:
لن تأخذ أميركا وغيرها في السلم ما لم تأخذه بالحرب؛ فلا صفقة القرن ولا صفقات القرون القادمة هي من تدفع الأميركي للتراجع، وحدها الانتصارات التي حققها الجيش العربي السوري والحلفاء تُجبره على ذلك، ومن ثم لنعط فرصة لهذهِ القمة من دون أن ننسى إمكانية تحولِ مطار دمشق الدولي إلى عقدةِ مواصلات دولية، كيف لا وصاحب البيت… (يُدافع عن سيادةِ بلادهِ وأراضيها، وعن المنطقة برمّتها في وجهِ الإرهاب).