حسابات الجنوب السوري
| مازن بلال
انكسرت حلقة الجنوب السوري إقليمياً ودولياً وقدمت صورة عن توازنات مختلفة، فالمعركة العسكرية التي كانت توحي بحساسية دولية أصبحت أمراً واقعاً، وساد صمت أميركي واضح تجاه انهيارات هذه الجبهة بعد أن خضعت لاتفاق أميركي روسي لخفض التصعيد، وبالتأكيد فإن سيطرة الحكومة السورية على حوران يؤشر إلى أن الحرب اتخذت منحى جديداً، فانكشاف هذه المنطقة لا يعني فقط انتصاراً عسكرياً، بل أيضاً معادلة سياسية على مستوى الشرق الأوسط عموماً.
يصعب تحليل الموقف الأميركي المنكفئ خلال معارك حوران، فهو على عكس ما حدث في مناطق سابقة ابتداء من محافظة حمص ووصولاً للغوطة الشرقية، حيث لم تنشط دبلوماسية الضغط ولم يتحرك المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا للتحذير من خطر ما يحدث، فالشلل الدبلوماسي هو المسؤول عن التفسيرات التي تحدثت عن «صفقة» بين واشنطن وموسكو، ورغم أن إمكانية حدوث تفاهم بين الدولتين قائمة، لكنها غير مفهومة في ظل الانحسار السريع لوجود المسلحين من مختلف المناطق، وعدم ظهور أي بوادر لانفراج في عملية التفاوض؛ في المقابل فإن الحديث عن تجميد للدور الإيراني هو افتراض لا تدعمه المواقف الإيرانية ولا واقع المعارك في باقي الجغرافية السورية.
ما يحدث اليوم لا يعني أن المعادلة الإقليمية ستعود إلى عام 2011، ولكنه يؤكد أن الردع الإقليمي لم يتغير نتيجة سنوات الحرب، فعلاقات دمشق لم تسجل أي تحول إستراتيجي يغير موقعها في المنطقة، وفي المقابل فإن إيران لم تكن محتاجة قبل بداية الحرب لقوة عسكرية داخل سورية لدعم تأثيرها في المنطقة، وهي بالتأكيد لن تحتاج لمثل هذا الأمر بعد انتهاء الأزمة، فالحرب في سورية لم تقدم أي صياغة على مستوى شكل الشرق الأوسط وعلاقاته، ولم تتبلور محاور جديدة أكثر فاعلية من تلك التي كانت قائمة.
التحول الوحيد الذي أنتجته الحرب السورية، وما يسمى الربيع العربي عموماً، كان في طبيعة الأدوار الإقليمية حيث بات من الصعب خلق وجود قوي لتحالفات على المستوى العربي على سبيل المثال، أو على المستوى الإسلامي كتلك التي نشأت مع دخول تركيا بقوة مع صعود حزب العدالة التنمية، وفي المقابل فإن إمكانية القوة للكثير من الأدوار الإقليمية تعيش نهاياتها، ففي حوران نشهد الفصول الأخيرة لقدرة السعودية والأردن على قلب موازين المعادلة الإقليمية، وفي الوقت نفسه فرغم الإيحاء بالدور التركي في الشمال السوري، إلا أنه يخضع حالياً لشرط أميركي على الأقل بعد الحديث عن اتفاق مدينة منبج، فأحلام «الحدائق الخلفية» بالنسبة للعديد من الدول والقوى، مثل الأكراد، كسرتها معطيات مختلفة عسكرية وسياسية.
في الجنوب السوري تبدو كل التفاهمات هشة لأنها تتحرك على مساحة من التوازن القلق، فلا الأردن ولا «إسرائيل» قادرتان على استيعاب تغيرات كبيرة تؤدي لإنهاء التوافق الأردني الداخلي، أو تزيد من متاعب «إسرائيل» على حدودها كافة، وهذا الأمر ربما حسم المواقف من معركة حوران، فعندما لا يستطيع الوجود المسلح طوال سبع سنوات من إحداث تغيير حقيقي على مستوى الشكل السياسي لسورية، فإن انحساره نحو بقعة جغرافية محددة لن يقدم أي وظيفة جديدة، فمعركة حوران على المستوى الإستراتيجي تم حسمها بعد نهاية المسلحين من الغوطة الغربية، فأصبح وجودهم في حوران من دون جدوى أو خطر يُذكر.
الهم السوري الأخير هو في صياغة توافق داخلي قوي لمحو آثار الحرب، وهذه المهمة هي التي ستنهي الحرب بشكل حقيقي لأنها ستحقق معادلة القوة لبلد استطاع الحفاظ على وجوده، ويحتاج أكثر من أي وقت مضى لنهوض جديد.