عندما تكون الحرب انتصاراً للتاريخ
| عبد المنعم علي عيسى
ثمة توافق روسي أميركي جرى في النصف الثاني من حزيران الماضي بخصوص الجنوب الغربي من البلاد، من دون أن يعني ذلك اقتصار ذلك التوافق على الجغرافيا المذكورة فهناك العديد من الدلالات التي تشير إلى إمكان شمول التوافق مناطق أخرى هذا إن لم يكن على امتداد الجغرافيا السورية، والراجح في هذا السياق أن ذلك التوافق كان جزئياً بمعنى أنه ليس نهائياً ومن المقدر له أن يكتسب تلك الصفة خلال لقاء الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين في هلسنكي منتصف تموز الجاري.
قبيل أسابيع من إطلاق الجيش السوري لمعركة تحرير الجنوب كانت واشنطن قد سلمت للفصائل المسلحة العاملة فيه ما تحتاج إليه من صواريخ الـ«تاو» المتطورة لكي تتمكن من مواجهة الجيش السوري، وفي الآن ذاته كانت تهيئة الوحدات الأميركية العاملة في الأردن سارية على قدم وساق من أجل أداء أفضل يؤمن دعماً لوجستياً مهماً ولازماً في المعارك المرتقبة، وبعد بضعة أسابيع أخذت اللهجة الأميركية تكشف عن تحول مؤثر في الموقف الذي تتبناه واشنطن لكن من دون أن يعرف المدى الذي يمكن أن يصل إليه هذا الأخير، قبل أن يعلن في واشنطن في اليوم التالي لبدء المعركة أن الإدارة الأميركية قد أبلغت الفصائل المسلحة بوجوب الاعتماد على النفس وعدم توقع المزيد من الدعم الأميركي، والمؤكد أن ذلك الإعلان لم يكن هدفه إبلاغ تلك الفصائل بما احتوته الرسالة سابقة الذكر، فذاك أمر يمكن أن يتم سراً من دون حاجة إلى الإفصاح عنه، الأمر الذي تكرر كثيراً على امتداد الحرب السورية، ولذا فإن تسريب رسالة كهذه كان يهدف بالدرجة الأولى إلى تعميم إقليمي للموقف الأميركي في العلن وليس في السر وعلى الأرجح كان ذلك تلبية لطلب روسي أرادت موسكو من خلاله إرساء موقف إقليمي يشكل منصة لا بديل منها في رسم التصورات واتخاذ المواقف للدول المنخرطة في تلك الحرب، ومن المفترض في حينها تعاطي الفصائل المسلحة مع تلك المعطيات بما يناسبها، إلا أن المفترض لم يحدث كما يبدو فقد أعلنت الفصائل المعارضة يوم السبت الماضي عن إخفاق المفاوضات التي كانت تجريها مع الوفد الروسي في عمّان بذريعة أن الشروط التي قدمها الروس مهينة لأنها تضع تسليم المعارضة لأسلحتها الثقيلة وكذا الخفيفة، والغريب هنا أن رفض المعارضة لأمر كهذا إنما ينبع من رؤيتها التي تعتبر أن الهزيمة العسكرية لم تحدث بعد ولذا فإن الوصول إلى اتفاق يمكن له أن يبعد عنها ذلك الوضع والهروب من مستحقاته، أما وجه الغرابة هنا فهو يتأتى من أن تبني تلك الفصائل قراراتها انطلاقاً من تلك الرؤية التي لا تعبر عن الواقع بل لا تقارب معطياته، على حين الحري بها القبول بتلك الشروط على عجل ومن دون ضوضاء انطلاقاً من أن وجودها برمته أضحى «ساقطاً نارياً» الأمر الذي يعني أن ترسيخ الهزيمة واقعاً على الأرض قد بات مسألة وقت لا أكثر، أما الرهان على أن الوضع الداخلي السوري مهيأ على الدوام للقيام بقلب الطاولة بمجرد تبدل المواقف فهو رهان يبدو كارثياً في ظل التحولات التي يشهدها الوضع الإقليمي وكذا الدولي أيضاً.
ومن المؤكد أن هذا التحول الأميركي الأخير يمثل تغييراً كبيراً في الإستراتيجيا التي أعلن عنها الرئيس الأميركي عشية قراره انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران مطلع أيار الماضي، وفيها كانت عملية محاصرة الدور الإيراني في المنطقة في الذروة منها، والمؤكد أيضاً أن عملية كهذه لا يمكنها تجاهل الدور الذي تلعبه إيران في الحرب السورية، أما القول إن واشنطن تراهن على دور روسي قادر على إخراج الإيرانيين من سورية فذاك قول ساذج، لأنها تدرك أن شغل رقعة جغرافية أياً تكن في حجمها وموقعها أمر من شأنه أن يشكل ورقة ضاغطة وضمانة ميدانية لا تعوضها أي اتفاقات مهما كانت أو بلغت ولربما كان ذلك التحول الأميركي دليلاً قاطعاً على اضطراب كبير يعم أرجاء غرف صناعة القرار والردهات المحيطة بها، وهو أمر يؤكد بدوره أن واشنطن لم تكن تمتلك في أي مرحلة من مراحل الصراع الدائر على الأرض السورية رؤية واضحة أو إستراتيجية تعمل من خلالها لتحقيق أهداف محددة، ومن الممكن القول إن كل الخطوات أو المواقف التي اتخذتها على امتداد الأزمة لم تكن أكثر من إشارات أو رسائل تهدف إلى رسم خطوط جديدة للعبة الدولية وخصوصاً في الحالات التي يحدث فيها تداخل كبير بين الدورين الأميركي والروسي، وفي مطلق الأحوال فإنه يمكن القول إن معركة تحرير درعا هي «آخر العنقود» انطلاقاً من أن لإدلب خصوصية باتت بالغة التعقيد وتحريرها سيصبح تحصيل حاصل إذا ما كانت التوافقات التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال حقيقة راسخة أو أنها تملك مقومات الديمومة والاستمرار واللافت هو أن الجيش السوري كان قد ابتدأ المعركة انطلاقاً من تحرير منطقة «اللجاة» إلى الشمال الشرقي من درعا بعد أقل من 48 ساعة على استهدافها حيث الطبيعة التي تختص بها تلك المنطقة شديدة الوعورة والقساوة، ومن المؤكد أن الجيش أراد عبر ولوجه من الأصعب إرسال رسالة واضحة لمن يريد أن يقرأ أو لمن يدرس حساباته جيداً، وفي ضوء ذلك الواقع لن تكون معركة تحرير درعا طويلة سواء أجرى ذلك سلماً أم حرباً، والراجح أنه سيحدث بإحدى الطريقتين سابقتي الذكر قبل نهاية شهر تموز الجاري الذي سيشهد انعقاد جولة جديدة من أستانا لكن في سوتشي هذه المرة وربما أريد بذلك القول بتماهي العلاقة بين الاثنين ما يشد أزرهما بعضهما ببعض على حساب مسار جنيف ليصبح هذا الأخير بروتوكولياً أكثر منه توازن قوى يفرض شروطه على الساحة السورية.
على امتداد المراحل وفي شتى الأزمان كانت حوران هي الضلع السائب في القفص الصدري الذي تمثل دمشق مركز النبض فيه، ولم يحدث أن انفصل الضلع عن القفص منذ أن سكن الإنسان في الأول، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد كما دلت عليه اكتشافات مصر في العام 1882م، وما أشبه الأمس البعيد باليوم ففي زمن الهكسوس، حوالى 1250 ق.م، ظهر العبرانيون وانتشروا في أراضي حوران تجاراً ومرتزقة، ثم ما لبثوا في سياق فصل الضلع عن القفص أن شكلوا جماعات صغيرة باتت تهدد أمن المنطقة برمتها وخصوصاً بعد احتلالهم لمدينة درعا، إلا أن مملكة دمشق وقفت سداً منيعاً أمام مشروعاتهم فخاضت حرب استعادة الضلع التي استمرت لقرنين من الزمن وانتهت بعودة هذا الأخير إلى فضاءات دمشق من جديد.