ثقافة وفن

مسلسل «الشك» سمكةُ الكذب الصغيرة.. تصطاد حوت الحقيقة … طبقة ثرية يربطها العمل وتعيش حالة من التفكك الأسري تظهر مدى الانهيار

| أحمد محمد السح

تبدو ملامح الدراما العربية والسورية خلال الموسم الرمضاني مستمرة في التكريس، حتى أصبح لفظ المسلسلات الرمضانية يطلق على الموسم الدرامي التلفزيوني بشكل خاص، وهذه التجربة بدأت في مصر وانتشرت منذ نحو ثلاثة عقود، وهذا ما أدى إلى تحديد شكل المسلسل العربي بثلاثين حلقة تلفزيونية، ومدة زمنية نحو أربعين دقيقة للحلقة لاستكمال مدة ساعة تلفزيونية مع ما يتبعها من إعلانات تؤمّن القيمة الشرائية للمنتج التلفزيوني، لكن الترهلات بدأت مؤخراً تظهر على الدراما وبدأت مشاريع الحشو الدرامي تظهر بشكل واضح، فالحكايات لا تتسع لثلاثين حلقة، والحلقة لا تحتاج أربعين دقيقة، فصار الكسل والتخمة ومشاهد السلام والكلام تملأ المُشاهدَ مللاً، ومؤخراً تعرضت الدراما السورية إلى مقاطعة شبه شاملة، للأسباب التي صارت معروفة، ما انعكس سلباً على نوعية الأعمال الدرامية… وهذا ما دفع شبكة وطن الأصلية على اليوتيوب للبدء بخطوة مميزة هدفت للتخفيف من عبء أوقات العرض على القنوات التلفزيونية ومتطلباتها المالية وسياساتها المتضاربة، فكان مسلسل الشك الذي أخرجه المخرج المحترف مروان بركات الذي كانت له بصمات خاصة في الدراما التلفزيونية، عن نص للكاتب سيف رضا حامد، فالعمل يبث عبر قناة اليوتيوب الخاصة بشبكة الوطن الأصلية، والعمل مكوّن من ثلاثين حلقة بمدة زمنية أقصاها اثنتي عشرة دقيقة، ولكن مع حذف الإعلان الترويجي وأحداث الحلقة السابقة واللاحقة والشارة البطيئة نسبياً التي تصل إلى دقيقتين ونصف الدقيقة تقريباً، نصل إلى مدة حلقة نحو أربع دقائق، قد تكون مشهداً واحداً كما في الحلقة الأولى أو عدة مشاهد قد تصل إلى أربعة أو خمسة مشاهد، وهذا أمر لابد من الوقوف عنده، فلا فائدة من جعل العمل ثلاثين حلقة طوال الشهر المبارك، حيث إن الهدف الأساس هو الخروج من عنق الضغط الدرامي لهذا الموسم، كما أن المشاهدين على كثرتهم كانوا يتخلصون من مشاهد الإعادة والتكرار ويكتفون بالدقائق الأربع فقط المخصصة للحلقة الجديدة، فكان من غير المفيد تمطيط الحلقة بإضافة السابق واللاحق.
يبدو واضحاً أن كل مشهدٍ مكثّفٌ ومكتوب بحرفية، حيثُ يمنع فيها الاستزادة ويتم التركيز على الجذب، فالعمل يتحدث عن أربعة أزواج من الطبقة الثرية تبدو علاقة العمل تربطهم مع بعضهم البعض في شركة يملكها ورد «بسام كوسا» وزوجه مي «ديمة قندلفت» ولدينا عائلة الصائغ تامر «أحمد الأحمد» وزوجه نورا «صفاء سلطان» ومهند «محمود نصر» وزوجه فرح «دانة جبر» والمهندس في الشركة جاد «جوان خضر» وزوجه ريمة «زينة بارافي»، الثنائيات غير متوازنة تبني علاقاتها على المال فقط دون الوقوف مع العواطف والقيم الزوجية على الأقل، حياة مترفة ومحدثة، مبنية على الشك والتناقضات والتغاضي عن الأسس المعنوية للحياة للتنازل أمام المغريات المادية لتعود هذه المغريات إلى الانبثاق مجدداً في وجه من يريد الوقوف في وجه الآخر، التآمر والشك انطلق في الحلقة الأولى التي كانت عبارة عن مشهد مكاشفة وحيد وطويل قادته مي «ديمة قندلفت» لتزرع بذرة الشك في عقول الرجال الآخرين وتضع زواجاتهم على محك الانهيار، هذه البذرة كشفت جوفاً من حالة التفكك الأسري لأسر غير موجودة أصلاً في المبنى والمعنى، وحلقةً إثر أخرى تتحرك العلاقات العاطفية لتكشف مدى الانهيار والتدمير، عبر تقنية الخطف خلفاً (فلاش باك) التي تكشف مدى الأخطاء والأكاذيب الذي تبنى عليها أسر متشابهة، الحوارات في العمل مكثفة ومتقنة، في محاولة للتخلص من الغث الذي يصيب الأعمال الدرامية الطويلة ذات الحلقات الطويلة… مع محاولة الممثلين الأداء القوي المتماسك وإعطاء الأفضل، غير أن الحضور القوي في الأداء كان للممثلين الذكور في حين كان أداء الممثلات أقل رشاقة يعتمد على تقنيات بلاستيكية وانفعالات غير حقيقية أحياناً، مع أن صعوبات العمل قليلة والمشاهد غير مجهدة، ومواقع التصوير محدودة، أغلبها داخلي، لكن الجهد يظهر في التعابير الصغيرة الأكثر صعوبة، من حيث رفة العين أو اهتزاز الشفتين أو ابتلاع الريق للتعبير عن الانفعالات الداخلية حين المكاشفات بين الشخصيات، وهي حالات بسيطة لممثلين محترفين كان لهم الأثر في أعمال متقنة مشهود لهم بها، لكنها كانت غير حقيقية مع وجود البوتوكس وملحقاته مع كلوزات قريبة على وجوه بعض الفنانات كالممثلة دانا جبر التي بات ضرورياً أن تختبر نفسها في أداءات بعيدة عن السكرتيرة الجميلة ذات الوجه السيليكوني. أما النجم بسام كوسا فهو لم يقدم دوراً جديداً عليه، فقد أدى ما يشبه هذه الشخصية بنفس الاحترافية في أعمال سابقة، وتسجل للفنان محمود نصر القوة في أداء شخصية تمثل الرجل الخسيس مبتعداً عن التمسك بدور الرجل البهي الطلعة وهو ما يضعه مجدداً في مصاف الممثلين الأقوى عربياً، ثمة شخصية تظهر هي عامر «فراس الفقير» في المسلسل قد يبدو دورها ثانوياً لكنها تدفع بالأحداث من خلال كشف المؤامرات التي يحيكها الجميع ضد بعضهم البعض، واعترافات بعواطف كاذبة بقصد المال، تباع وتشترى حسب الحاجة وفراس يعطي للدور وزناً باستخدام صوت جهور ونطق واضح وهو ما احتاجته الشخصية رغم ظهورها القليل في المشاهد.
يتكثف كشف الأسرار في الحلقات الأخيرة من العمل لكن أسلوب الكشف يكون عن طريق الحوار، أي كشف لفظي لماضي الشخصيات إما على لسانها أو على لسان شركائها، الكشف اللفظي يسهم في ضغط الوقت وضغط التكاليف، ربما هذا ليس من مستحبات الدراما والسينما ويسجل نقطة ضعف تجاهها لأن هذه الأحاديث هي أساساً أحداث يمكن أن تتحول إلى مشاهد فلاش باك على الأقل، لكن المال له حساباته والوقت الذي التزم به العمل له حساباته أيضاً. فأسلوب جمع شخصيات العمل مع بعضهم لحكاية تفاصيل الحكاية هو الحل الأبسط للتشويق الذي تم الاشتغال عليه، أسلوب استعراضي عادي، برز ذلك في الحلقة التاسعة والعشرين والحلقة الأخيرة، حيث تم الكشف أن الاتكاء في بناء العمل كان على مثل صيني قديم «يمكنك بسمكةٍ صغيرة من الكذب أن تصطاد حوتاً من الحقيقة» المقولة التي اعتمد عليها في بناء العمل، الواضح أن الحكاية حاضرة في ذهن الكاتب وهي بسيطة تتلخص بمعاقبة رب العمل وزوجه لموظفيه، لبدء الاشتغال على العقاب لشخصيات قذرة جمعهم القدر، لكن الأسلوبية في عرض الحكاية هو الأهم، العمل متكامل تقنياً لكن الإضاءة كانت تعطي انعكاساً غير سليم للرؤية وينعكس ذلك في لون الشعر الذي يبدو كحلياً مزرقاً بدل الأسود، وهو ما يمكن وضعه تحت بند الملاحظات التقنية.
العمل الدرامي في هذا السياق والشكل التسويقي جميل ومفيد ويفتح أبواباً جديدة للكتابة الدرامية والتسويق والابتعاد عن مطبات السوق ومؤامراته، وهذه خطوة أولى للدراما السورية ستتبعها خطوات ربما تكون أقوى وأجرأ لتصل إلى كل الشرائح متخلصة من قيود الرقابة وأمراض سوق الإنتاج.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن