اقتصاد

تناقضات حرب الطاقة

| علي محمود هاشم

تبدو أمريكا متطلبة اليوم أكثر من أي وقت مضى، فهي تدفع أسواق النفط العالمية إلى الشيء وعكسه في آن معاً، ولكل منهما أهدافه، إذ تطالب بتبريد الأسعار من خلال تعويض التقلص المتدحرج في إمدادات النفط بسبب حربها المعلنة على صادرات كل من إيران ثاني أكبر منتج للنفط في «أوبك» وصاحبة ثاني أكبر احتياطي غازي بالعالم، كما فنزويلا القابعة على أكبر مخزون نفطي على وجه الأرض يمكنه تزويد العالم بنصف احتياجاته اليومي!
اليوم، تحتاج واشنطن شيئا من أسعار النفط المرتفعة للحفاظ على التوسع المطرد في تشغيل الحفارات الأمريكية من جهة والإمساك بالناصية الاستراتيجية لحرب الطاقة من الجهة الأخرى، وهي تحصل على ذلك عبر تعطيل إنتاج الآخرين قسرا لتقليص المعروض وفق ثقافة «الويسترن» المتجذرة بمسدساتها ذات الفوهات الطويلة، لحرمان الأسواق العالمية من نحو 38 بالمئة من الاحتياطات النفطية المؤكدة في باطن الكرة الأرضية، والتي تتوزعها كل من فنزويلا بـ25 بالمئة ولإيران 13 بالمئة.
على جبهة فنزويلا، لا يزال شح «المرتزقة» وغياب الحواضن التكفيرية، العقبة الكأداء أمام إطلاق «ثورة» ما ضدها للهيمنة على نفطها، وفي هذا السياق، يمكن فهم «الانتقادات» التي يدبّجها كتبة البترودولار من مكاتبهم في أعرق بقاع التخلف الخليجي إزاء «قصور» الديمقراطية البوليفارية عن رتق أزمات الدواء والسلع الأساسية التي تواجه فنزويلا التي كان لها أن تحوز مرتبة متقدمة كأحد أغنى شعوب العالم لو سمح لها باستخراج ثرواتها، كما يمكن فهم الجنوح الأميركي مؤخراً لخيارات «ثورية على الطريقة الخليجية» ضد هذه الدولة اللاتينية، وفق ما يمكن فهمه من إعلان نائب الرئيس الأمريكي قبل أيام عزم بلاده «الاستمرار في مساعدة الفنزويليين في طريقهم إلى استعادة الديمقراطية!».
أما إيران التي تسللت إليها تهمة «تمويل الإرهاب» من ضفة الخليج الأخرى، فيبدو أن دفق القلاقل المذهبية نحوها بالتزامن مع إعادة إحياء العقوبات الأمريكية عليها، إنما هو الخيار الكاريكاتوري الوحيد المتاح لتطبيق نظرية «اضرب الثور الإيراني المقيد الآن كي تتفرغ للروسي المنفلت لاحقاً»، في سياق إعادة صقل القدرة الغربية المتهالكة في الهيمنة على تدفقات الحصة الأوسع من المعروض النفطي العالمي.
على الجانب المعاكس، تحتاج واشنطن اليوم أيضاً إلى أسعار منخفضة لتقليص جدوى هوامش عائدية المخاطرة بتجاهل سلاح العقوبات ضد أعدائها الطاقويين لدى استجرار الزبائن لبراميل نفطهم المنفلتة عن هيمنة واشنطن، كما إيران وفنزويلا وروسيا.
ولأن تناقض الخيارات هذا يصيب بالعقم، فلربما لذلك يتم التساهل اليوم بحكم ترتيب الأولويات، مع مشاريع نقل الغاز من آسيا نحو الأسواق الأوروبية شمالاً وجنوباً، لكن في الوقت نفسه، يتم العمل -توازياً- على تأمين أداة استدراك مستقبلية غب الطلب لتجميد ذلك التساهل عند اللزوم، من خلال الاستمرار بتأمين مصادر أخرى من إفريقيا والشرق الأوسط: كمصر التي تكشفت بشكل فجائي عن احتياطيات طاقوية ثورية، وأنابيب غاز «غرب إفريقيا» الفريدة في أطوالها ومساراتها وتمددها المقرر عبر الأطلسي باتجاه أوروبا، وكأيضاً، حقول النفط التركية التي تم اتخاذ قرار فجائي لحفرها بأيدي شركة «علاء الدين» الأمنية الأمريكية في ولاية «سيرن» جنوب الأناضول قرب الحدود السورية.. هذه البقعة تعد، أيضا، الممر الأوراسي الموازي جنوب قزوين، وهي تمرر حاليا أنابيب «تاناب» الغازية من إذربيجان، لكنها مرشحة للتحول إلى نسخة طاقوية من قاعدة إنجرليك غربا، بعد تمرير ما تيسر من غاز قزوين وما خلفه، مستقبلاً.
خلاصة التناقض الأميركي هذا، تترك احتمالا وحيدا لفهم استراتيجية حرب واشنطن الطاقوية، يتمثل بـ«تجزئة المعركة» ضد أعدائها شرقا، ولربما هذا وحده ما قد يفسر السماح لمملكة تابعة لها كالسعودية، ومشيخة تابعة كليا لبريطانيا كالإمارات، بإقامة تفاهمات مع منتجين «أعداء» آخرين كروسيا عبر اتفاق «أوبك +» كحل وحيد ممكن لتلبية الاتجاهات المتعاكسة للحرب الطاقوية المتمرحلة التي تقودها الولايات المتحدة.
في خضم الحرب هذه، لربما ترى روسيا أن المليون برميل التي وافقت على ضخها بالأسواق العالمية ضمن «أوبك +» كمية مناسبة للحفاظ على أسعار فوق الـ60 دولارا للبرميل كعتبة تحقق مصالحها، بينما يرجح أن نجاعة الحرب الطاقوية الأمريكية تتطلب سعراً أقل من الـ50 دولاراً، وهذه يمكن لمليوني البرميل التي وعد ملك السعودية الرئيس الأمريكي قبل أيام بدفقها في الأسواق العالمية، أن تحققها.
وبين العتبتين كلتيهما، يلوح مجددا شبح سيناريو 2014 في الحرب الطاقوية على روسيا.. إذ، ولأنه من غير المعهود أن يصحح الأميركيون تصريحات قاموا بتسريبها حول اتفاقاتهم مع السعودية، فإن ذهاب البيت الأبيض أمس إلى تصحيح «وعود الملك السعودي» حول مليوني البرميل، ليس سوى تلميحا لنيات مبيتة تجاه روسيا، ستبقى مفاعليها متخفية إلى ما بعد التخلص من «نفط إيران».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن