الكوكب الآخر
| زياد حيدر
اليابانيون ليسوا ملائكة، ولا بلادهم الجنة. اليابانيون، في نماذجهم الجميلة التي تثير الحسد والدهشة معاً، لم ينشؤوا في المدارس الدينية التي تعلم أن النظافة من الإيمان، كما أن ما يقرب نصفهم، لا ينتظر مكافأة فوق دنيوية، تخبره بأنه سيستلقي بجانب نهر من العسل اللامع، فيما تخرج العذارى من وهج خياله، لتستلقي في حضنه بشحمها ولحمها، كلما اشتهى.
في اليابان كغيرها من بلدان العالم، مشكلات، معدلات انتحار عالية، وعصابات إجرامية من أشرس عصابات العالم، اغتصاب جنسي ورشاوى، وفيها طقوس لهو وتسلية تفوق في غرابتها وشذوذها أكثر الطقوس غرابة لدى الشعوب الأخرى.
اليابانيون بشر عاديون، ينشؤون في عائلات محافظة نسبياً، تتبع تقاليد صارمة في العلاقات الاجتماعية، وتحترم الآخر والقانون بأغلبيتها العظمى، وهي فخورة بانتمائها لوطن كادت تذيب ثلثه حرارة القنابل الذرية، ولكن من دون أن تلوي عزيمته، أو تنال من إصراره في العودة إلى التأثير.
وبالطبع فإن اليابان من دون قانون ستكون مساحة تعمها الفوضى، فيأكل القوي فيها الضعيف، ويجتهد الضعيف في حيله ليقتنص حقوقه من القوي، ويضيع بسطاؤها بين أرجل الكبار وتحت دواليب سياراتهم المعتمة الزجاج.
كما أن بلادهم لو كانت بقانون ينتقي بين فرد وآخر، ويتمطمط وفق رغبات المتنفذين، ويتأرجح تحت ثقل موازين النفوذ والمال، فستكون حينها شبيهة ببلدان هذا العالم الثالث الذي نحن منه.
ولن يتميز شعب تلك البلاد، إن كانت معايير النجاح فيه، تحتكم لمعايير الانتماء الحزبي والولاء السلطوي، ومستوى النفاق المتوجب بذله أمام أصحاب القرار، لا مستوى الكفاءة والاجتهاد والنزاهة والإمكانات الممكن وضعها في خدمة الوطن والشعب.
وإن بلادهم ما كانت لتختلف عن بلدان كثيرة حولنا، لو استندت في مكافحة أمراضها وعللها إلى الطريقة ذاتها التي سبق لها أن حاولت بها وفشلت، كما أنها لم تكن لتكون ما هي عليه، لو لم تتعلم من تجربة الحرب التي هددت ليس أرضها فحسب، بل عرقها لو استمرت، أو لو اختار اليابانيون الاستمرار حتى الموت، على طريقة الكاميكازي الشهيرة، ولكن على مستوى أمة.
واليابان، لم تكن ما هي عليه، على كل مستويات الحياة والإنتاج بكل المجالات، لو لم تدرس كل أخطاء الماضي وتفندها وتصححها، لتمنع الانتكاسات، وذلك بالعلم والخبرة والصراحة في مواجهة النفس أولاً ومن ثم الآخر، لا بالشعارات والتنظير.
كل هذا فعلته اليابان، بطرق عديدة، استندت إلى التصميم، والإرادة التي لا تلين، والتي تطلبت أجيالاً، تعلمت وتراكمت لديها الرغبة في العمل والتميز وإعادة الانطلاق، حتى تحول الاجتهاد لإدمان، والرغبة في النجاح للهاجس الأساسي، وحب الوطن لدين، يشبه بالنسبة لدينا الأديان السماوية، ولكن من دون جنة مثيرة ومنتظرة.
العبارة التقليدية المكررة عنهم، عند كل مشهد مثير للإعجاب، هو أن اليابان «كوكب آخر».
هو ليس كذلك، وغرابته هي من شدة بؤسنا أكثر منه من تميزهم.
البلدان التي يترك سكانها الأبواب شبه مفتوحة أثناء النوم كثيرة بعدد الدول التي يتمترس سكانها في بيوتهم في خوف من «مخترق» ليلي. والبلدان التي ترفع شعار «لا يدخل الجنة إلا كل نظيف»، والقمامة مكدسة في شوارعها، هي بعدد البلدان التي لا تمتلك شعارات فضفاضة عن النظافة، رغم أن نظافتها يضرب بها المثل. اليابان على هذا الكوكب ولكن نحن من هم خارج الزمان.