ثقافة وفن

حمامات دمشق من روائع الفن المعماري وثقافة اجتماعية متقدمة

| منير كيال

اشتهرت سورية بحماماتها التي تعود إلى أقدم العصور، وكانت هذه الحمامات أحد المباني التي تحتل مراكز مهمة بمخططات المدن عبر العصور التاريخية.
وتدلّنا الأوابد التاريخية على جمال هذه الحمامات، التي ما زالت خير شاهد على أهميتها بالحياة الاجتماعية والصحية والرياضية فضلاً عن كونها أماكن نزهات واجتماعات يتناول بها روّادها مختلف الأحاديث.
وقد كثرت هذه الحمامات بالعهد الروماني فكانت من روائع العمارة السورية. يتألّف الحمام من ثلاثة أقسام:

– القسم البارد: وهو يقابل القسم البرّاني من حمامات هذه الأيام.
– القسم المتوسط الحرارة: وهو يقابل القسم الوسطاني من الحمام.
– القسم الحار: وهو يقابل القسم الجواني من الحمام.
يضاف إلى ذلك غرف الملابس والغرف المخصصة للتدفئة التي تعكس روح العصر وميل مجتمعه إلى الفخامة فضلاً عن ذلك، تجدر الإشارة إلى أهمية الموقد بالحمام، وكذلك طرق تدفق المياه الحارة إلى أجران الاستحمام، والبحرات الموزعة بالحمام.
ودمشق إحدى الحواضر العربية والإسلامية وقد اشتهرت بحماماتها العامة بالشرق كله، وإنك لتجد من حماماتها، ما هو من روائع الفن الإسلامي المعماري بطرز عمارتها وريازتها وزخارفها ونقوشها، ولقد تفنن الدماشقة بحمامات مدينتهم، رصّعوا جدرانها بالقاشاني، وفرشوا أرضها بالرخام، وعقدوا أطراف قبابها وقرنها عقود الجص النافرة، كما أقاموا بهذه الحمامات نظاماً هندسياً رائعاً لتزويدها بالمياه الساخنة والباردة، وتزويد أجران مقاصيرها بهذه المياه.. وكذلك تزويد بحراتها بالمياه التي تتشامخ بنوافير تأخذ بالألباب.
وقد كان أهل دمشق يفخرون بحماماتهم زمن الأمويين، وذكر أن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك كما بنى مسجد دمشق «الأموي» تحدث إلى أهل دمشق بقوله:
«تفخرون على الناس بأربع خصال، تفخرون بمائكم وهوائكم وفاكهتكم وحماماتكم، فأحببت أن يكون مسجدكم هذا الخامسة».
وكان الناس يرتادون هذه الحمامات ليمضوا فيها وقتاً هنياً في الاغتسال وتناول الطعام والاستشفاء من بعض الأمراض، وكانوا يحيون بها بعض مناسباتهم الاجتماعية النسوية خاصة وهذا يفسر تداول المثل الشعبي القاتل، نعيم الدنيا الحمام.
ولقد ورد ذكر حمامات دمشق وتعدادها وتوزيعها لدى عدد من المؤرخين، وأول من تكلم عنها الحافظ ابن عساكر بتاريخه الكبيـر (571هـ) فأفــرد لها جانباً في بحثه عن التعريف بقنوات المياه التي بدمشق، فذكر سبعة وخمسين حماماً ثم جاء بعده ابن شداد (640هـ) فزاد عليها حتى بلغت خمسة وثمانين حماماً، وبعد ذلك أضاف إليها الحمامات التي خارج سور المدينة فبلغ مجموع هذه الحمامات مئة وسبعة عشر حماماً، وذلك عدا حمامات المزة والنيرب والصالحية.
وفي القرن الثامن للهجرة ذكر الأربلي (726هـ) أن بدمشق أربعة وسبعين حماماً فضلاً عن سبعة وثلاثين حماماً خارج سور المدينة، وتسعة وعشرين حماماً بالحواضر المتصلة بمحيط سور دمشق.
أما ابن عبد الهادي، فقد ترك كتاباً مهماً هو: آداب الحمام وأحكامه، الذي يعتبره الباحثون صورة صادقة عن التراث الشعبي بالحمام خلال القرن العاشر للهجرة يقع الكتاب في خمسين باباً تحدث فيها ابن عبد الهادي عن شروط بناء الحمام، ودخول الرجال والنساء إليه، وعن نفعه ومضرته، والأوقات التي يُدخل فيها إليه، فضلاً عن حكم ماء الحمام وأرضه وبلاطه وبالتالي حكم العودة فيه، وما ورد عن النبي (ص) فيه وفي كتاب آداب الحمام وأحكامه الذي تركه ابن عبد الهادي، عدد حمامات دمشق فبلغت مئة وسبعة وستين حماماً.
وقد عاصر النعيمي ابن عبد الهادي وترك لنا كتاباً بعنوان الدارس في تاريخ المدارس ذكر به عدداً من الحمامات بلغ ستة وثلاثين حماماً مذكورة لدى من سبقه من الباحثين ويمكن أن نشير إلى ابن طولون الصالحي الذي ذكر بكتابه القلائد الجوهرية بتاريخ الصالحية (وقد حققه العلامة الشيخ محمد أحمد دهمان) أحد عشر حماماً بالصالحية من دمشق مع الإشارة إلى أن ابن طولون من جيل القرن العاشر الهجري (953هـ).
ويمكن أن نضيف إلى هؤلاء محمد بن كنان المتوفى سنة (1003هـ) وقد وضع كتاباً بعنوان المروج الهندسية الفسيحة في تلخيص تاريخ الصالحية في القرن الحادي عشر للهجرة، وعلق على الحمامات التي ذكرها ابن طولون.
وفي عام 1942م أفرد المهندسان الفرنسيان ايكوشار ولوكور كتاباً عن حمامات دمشق ذكرا به حمامات دمشق وتطورها حتى القرن التاسع عشر، كما أوجزا الحديث عن مياه دمشق ووصفا الحمام والحياة الاجتماعية بالحمام، وقد بلغ عدد حمامات دمشق في ذلك الحين ستين حماماً، ذكرها ايكوشار ولوكور، وكان من هذه الحمامات ما هو مخصص للرجال في فترة من اليوم وللنساء في فترة أو أوقات أخرى، ولعل من الجدير بالذكر أن أغلب هذه الحمامات كانت أوقافاً، وقفها أهل الخير على اعتبارها ذات نفع عام، حتى إن المستحمّ كان يستحمّ ويأكل قرصين من الصفيحة «لحم بالعجين» مجاناً وحسبة لوجه الله تعالى، وفي جميع الأحوال فإن ما جاء به ايكوشار ولوكور على درجة من الفائدة على ما في ذلك من هنات غير مقصودة، وخاصة ما كان يتعلق باختصاص العاملين مما ليس له صلة بالحمام ومن ذلك ما كان يمس بالكرامة الإنسانية.
كما أدلى صلاح الدين المنجد دلوه في موضوع الحمامات فجمع نصوصاً مما ذكره من سبقه وجعل ذلك بعنوان: «حمامات دمشق في زمننا» فعدد مواقعها والمياه التي تتمون منها وفي ختام هذه الأبحاث كان كتابنا الحمامات الدمشقية الذي صدر عام 1986م في طبعته الثانية رغبة منا بإعطاء حمامات دمشق حقها من الدراسة، فكان لنا أن نقوم بدراسة ميدانية لهذه الحمامات، فكان منها تسعة وعشرون حماماً لا تزال تقوم باستقبال روادها للاستحمام وإحياء بعض المناسبات الاجتماعية في أواسط العقد الخامس من القرن العشرين، في حين تخلى ثمانية عشر حماماً عن وظيفته، وقد حوّلها أصحابها إلى دور سكن أو محال ومخازن تجارية، وبعد نحو 25 عاماً عاودنا جولتنا على حمامات دمشق، فوجدنا أن ما يقارب ثلثها قد توقف عن العمل، أو تخلى عن وظيفته باستقبال الناس للاستحمام، مع الإشارة إلى ما قامت به المديرية العامة للآثار والمتاحف، بإخلاء حمام نور الدين بالبزورية، من المحال والمخازن التجارية التي تشغله، وأشرفت على ترميمه بشكل يماثل وضعه الأصلي وقد حصل مثل ذلك بحمام الخانجي بسوق ساروجة وحمام أمونة بحي العمارة وتجدر الإشارة إلى أن موقع كل من هذه الحمامات إنما هو على مقربة مسجد، نذكر من ذلك حمام درب العجم أو النوفرة عند الباب الشرقي للجامع الأموي وحمام نور الدين بالبزورية القريب من باب الزيادة للجامع الأموي، وحمام السلسلة بالقرب من باب الكلاسة للأموي، وكذلك حمام الملك الظاهر بباب البريد القريب من الباب الغربي للأموي وكذلك حمام الصّفي بالقرب من جامع الباشورة بحي الشاغور ومثله حمام السروجي بالغرب جامع السروجي بالشاغور، وحمام التيروزي قرب جامع التيروزي بباب السريجة… ولعل ذلك يعود إلى ارتباط صلاة الصبح بتلك المساجد ولاسيما الجامع الأموي، فقد حدث أن الحمامات التي بالقرب من الأموي تستقبل ثلاث دفعات من الذين يرغبون في الاستحمام بفترة الصبح، دفعة للمؤذنين حتى يكونوا على طهارة قبل البدء بالتسابيح وآذان الصبح، ودفعة لمن يريد صلاة الصبح جماعة ودفعة لمن يرغب ألا تفوته صلاة الصبح لدى شروق الشمس، وتستمر فترة الاستحمام الصباحية هذه للرجال حتى الظهر حيث يكون دور النساء في الاستحمام من الظهر وحتى المغرب، وإذا كان الرجل يذهب إلى الحمام منفرداً إلا في المناسبات التي تستدعي ذلك ومن ذلك الحمام، فإن المرأة غير ذلك فإنها لابد أن تكون على موعد مع الجارات والصديقات فضلاً عمن يرافقها من الكناين والبنات والأولاد، ولا تنسى الواحدة منهن أن تأخذ معها الفُوط والمناشف وطاسة الحمام والصابون والترابة الحلبية والحنّاء، فضلاً عن الطعام، من حواضر البيت كالجبنة والزيتون والزعتر والمكدوس وأحياناً الكشكة الخضراء وتوابعها، وهنا لا يمنع أن يكون ذلك الطعام سوقياً، يُجلب من عند العشي وكذلك الصفيحة وما رافقها من المعجنات الأخرى أو المنسف، وما إلى ذلك، خاصة بمناسبات الأفراح.
ومن جهة أخرى، فمن النادر أن تعتمد النسوة على الأوسطة باستحمامهن إلا ما ندر، بينما نجد أن كثيراً من الرجال على درجة كبيرة من الاعتماد على الريس باستحمامهم فضلاً عن التفريك بالكيس والتلييف بالليفة والصابون.
أما مناسبات الاستحمام، فهي قليلة وفردية عند الرجال، بحيث يكون ذهاب الرجل إلى الحمام بمفرده، إلا في حالة حمام العرس وحمام السهرة، الذي يلتقي به عدد من الصحب على سبيل المرح والحبور ومن ثم الاستحمام، ولا تخلو هذه المناسبة لاستحمام الرجال من المقالب والمآكل وخاصة الفول المدمس والتساقي.
أما مناسبات استحمام النساء فكثيرة منها ما كان عادياً وهو أسبوعي على الأغلب، أو استحمام ما كان بمناسبة العرس، وهو قبل موعد العرس بأسبوعين، وتدعو إليه والدة العريس ومن في حكمها وهذه الدعوة لأهل العروس. والصحب والجيران والمعارف، ويخالط هذا الحمام الأغاني والأهازيج (الزلاغيط).
وهناك حمام الفخرة وهو بدعوة من أم العروس، ويكون قبل العرس بأسبوعين على الأقل، أما حمام الفسخ أو النفاس فهو بين اليوم السابع واليوم الحادي والعشرين من الولادة ومن هذه المناسبات حمام الأربعين ويكون باليوم الأربعين من الولادة.
ولا يكتمل هذا البحث ما لم نتوقف بعض الشيء عند العاملين بالحمام فقد ارتبط عدد العاملين بالحمام مع اتساع الحمام وتعدد مقاصير الاستحمام بالوسطاني والجواني، وبالتالي موقع الحمام ومستوى زبنه الاجتماعي، ولكل من هؤلاء العاملين عمل مميز خاص به لا يتعداه، ومنهم من توارث العمل كابراً عن كابر، كما أنه ليس المهم أن تجد من يقبل العمل بالحمام، وإنما الأهم من يجيد أصول الصنعة وتقاليدها والتعامل مع زبن الحمام، كما أن أجر العاملين بالحمام يعتمد على الإكراميات التي ينالونها من الزبائن مقابل خدماتهم وتأمين راحتهم خلال استحمامهم وحتى مغادرة الحمام وهكذا نجد أن المعلم في أعلى المراتب، وهو على الأغلب صاحب الحمام أو مموله، والعلاقة بين المعلم والعاملين الآخرين بالحمام، أساسها العون المتبادل والألفة، يجلس المعلم على تخت (دكة) تُمكنه ملاحظة الداخلين إلى الحمام والخارجين منه، فيقوم بالترحيب بهم، ويطلب إلى الناطور والتبع الإسراع إلى خدمتهم (الزبائن). كما يقوم المعلم باستلام حاجات الزبون من نقود وأشياء أخرى يحفظها له لحين انتهاء الزبون من الاستحمام، فضلاً عن ذلك فإن المعلم يتقاضى من الزبون أجر (وفاء) الاستحمام.
ويأتي الناطور بعد المعلم، وقد ينوب عنه باستقبال الزبن، وهو مسؤول عن نظافة الحمام ، ويقدم المشروب من قهوة أو شاي أو نحوه للزبون، أما أجر الناطور فهو من إكراميات الزّبن. يستقبل الناطور الزبون، ويساعده على خلع ملابسه، ويلف على خصر الزبون لستر عورته وتسمى هذه الفوطة باسم الماوية وفوطة أخرى على كتفي الزبون تسمى الظهرية فإن انتهى استحمام الزبون فإن الناطور يضيف إلى الزبون فوطة أخرى لرأسه تسمى الرأسية. ويأخذ الناطور بالزبون إلى القسم الوسطاني من الحمام فالقسم الجواني، فإذا أراد أن يكون استحمامه بواسطة الريس فإنه يذهب إلى مقصورة الصنعة الخاصة بعمل الريس، وإلا فإن الناطور يأخذ الزبون إلى أجران الجواني ليستحم بمفرده.
ويعتبر الريس من العاملين الأساسيين بالحمام، وهو يمارس عمله بتحميم رأس الزبون وتفريك جسم الزبون بالكيس الخاص بذلك ليزيل مفرزات جسمه ثم يقوم بتلييف جسم الزبون بالليفة والصابون وذلك في كل أدب جم وبالطبع فإن أجر الريس يقوم على ما يناله من الزبن من إكراميات.
ويأتي عمل التّبع بأسفل السلم المهني بالحمام، وهو يعمل بإشراف المعلم والناطور والريس وكان عليه تنظيف الحمام من مخلفات الاستحمام، كما كان عليه العناية بمقصورة النورة المخصصة لإزالة الشعر. وعليه أيضاً إحضار المناشف للزبون بعد انتهاء استحمامه.
وكان من العاملات في فترة استحمام النساء المعلمة والناطورة وكان عملهما يماثل عمل المعلم والناطور في فترة استحمام الرجال، أما عمل الأوسطة فيماثل عمل الريس في فترة استحمام الرجل، ونجد أخيراً ما يعرف بالبلانة وعملها يماثل عمل التبع في فترة استحمام الرجال، وفي الختام يجدر بنا أن نقول للمستحم نعيماً وملكاً كبيراً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن