ثقافة وفن

عودة الدراما التاريخية يدفعنا للتأمل في دروس التاريخ وكيفية الاستفادة منها … المشكلة حين يتصدى للكتابة من يقرأ كتاباً تاريخياً سطحياً ثم يتهيأ له أنه صار متخصصاً في التاريخ

| وائل العدس

بعد غياب طويل، عادت الدراما السورية إلى دائرة الدراما التاريخية، فأنتجت عملين أثارا جدلاً واسعاً، هما «هارون الرشيد» و«المهلب بين أبي صفرة» بمشاركة عدد كبير من النجوم.

العمل الأول من تأليف عثمان جحا وإخراج عبد الباري أبو الخير وبطولة قصي خولي وكاريس بشار وكندا حنا وعابد فهد وسمر سامي وسامر إسماعيل وديمة الجندي وديمة بياعة وعلا بدر وإسماعيل مداح، وتدور أحداثه حول الصراع الذي عاشه خامس الخلفاء العباسيين عندما استدعاه أخوه «الهادي» لكي يعزله، لولا تدخل والدته (الخيزران)، كما يتعرض للصراعات والدسائس التي كانت تدور في القصر وحوله.
العمل الثاني من تأليف محمد البطوش وإخراج محمد لطفي وبطولة معتصم النهار وديمة قندلفت وخالد القيش وروبين عيسى ومنذر الرياحنة وجلال شموط ومحمد قنوع وعلاء قاسم وطارق الصباغ، وتدور أحداثه المسلسل حول حياة «المهلب بن أبي صفرة الأزدي» أحد ولاة الأمويين، حيث تتطرق الأحداث لكيفية تعيينه والياً على خراسان، ونشأته وحياته، وفترة حكمه.
إن عودة الدراما التاريخية تدفعنا للتأمل في دروس التاريخ وكيفية الاستفادة منها في واقعنا وحاضرنا وتعنينا في رسم مستقبل أفضل، مع الأخذ بالحسبان أنها لا تؤسس للذاكرة التاريخية أي إنها ليست مصدراً تاريخياً، وإنما هي نافذة نطل منها على التاريخ ومصادره ومدوناته وتجسد لنا وقائعه بطريقة درامية.
لكن المشكلة أن التعاطي مع التاريخ وشخصياته بات بقدر كبير من العصمة والإطلاقية التي تحول دون رؤية الواقعة أو السلوك الشخصي، إلا من زاوية مثالية مطلقة.
وما بين الأمس واليوم حدثت تغيرات كثيرة أثرت في الدراما التاريخية، أبرزها التكاليف الباهظة لهذه الأعمال، بالإضافة إلى عدم وجود نص كتابي قوي مثل أيام التسعينيات وبداية الألفين والعقد الأول منها.

الباحث التاريخي
من المفترض أن يكون كاتب الدراما التاريخية باحثاً تاريخياً من الطراز الأول ومتخصصاً في عصر ما من عصور التاريخ، يعايش أحداثه وأبطاله، ويفهم مصطلحاته وطريقة تفكيره وعاداته الاجتماعية والدينية وأمثاله الشعبية، ويقرأ ما بين سطور حولياته التاريخية بحيث يسهل عليه ليس فقط تعليل وتفسير الغوامض من الأحداث، بل يمكن له أن يتنبأ بأحداث تاريخية مسكوت عنها أو أحداث تربط بين أحداث مكتوبة، ومن ثم يتمكن من المقارنة بين الروايات المختلفة للحدث الواحد، ويعرف بسهولة تمييز الصحيح منها، كما يميز بين الأحداث الحقيقية في الروايات المتداخلة أو الروايات المركبة، ويتعرف على دور أبطال الحدث التاريخي المجهولين الذين لا يعبأ المؤرخون المعاصرون لهم من ذكر أسمائهم.
كاتب الدراما التاريخية يجب أن يكون باحثاً تاريخياً متمكناً وكاتباً درامياً متمكناً في الوقت نفسه، ويستخدم موهبته في فن الكتابة الدرامية في تحويل الروايات التاريخية المضطربة والمتشابكة والمتناقضة والمركبة والمتداخلة إلى عمل درامي متدفق بالأحداث المنطقية المعبرة عن عصرها، إذ يضيف إليها اللغة واللهجة والمصطلحات التي ينطق بها أهل العصر وعاداتهم في الزي وطريقتهم في الكلام والتحية والسلام والطعام.. الخ.
في الدراما التاريخية تمتزج قمتا البحث التاريخي والإبداع الدرامي، وهنا المشكلة حين يتصدى للكتابة الدرامية من يقرأ كتاباً تاريخياً سطحياً ثم يتهيأ له أنه صار متخصصاً في التاريخ فيكتب دراما تاريخية.
الدراما التاريخية أفضل ما يجمع بين الثقافة والمتعة معاً، بل إن جمهورها يتسع لأن ثقافة التراث هي التي تسيطر على العقول والقلوب، وهي التي تقوم بتجميع الناس في تراث مشترك يفهمونه ويحبونه جميعاً.
لكن بعض الكتاب باتوا يتناولون التاريخ درامياً بخفة وطيش فتحولت المشكلة إلى أزمة على المستوى العلمي والفني والفكري، لأن التناول السطحي يجعل المؤلف مضطراً لستر العيوب باختلاق مواقف حماسية وشعارات أيديولوجية يرضى عنها عوام العصر وتسهم في تغييب عقولهم وتباعد بينهم وبين تاريخهم الحقيقي.

المستوى الثالث
منذ بداياتها، ركزت الدراما التاريخية على نقل تاريخ الشخصيات ذات المستوى الأول والثاني إلى الشاشة، وما زالت تتعامل مع هذين المستوين من دون النظر إلى الشخصيات الثانوية مثلاً.
من الصعب تتبع سيرة الشخصيات التاريخية من المستوى الثالث لأن المؤرخين كانوا يركزون على تسجيل التاريخ لشخصيات المستوى الأول من الحكام وكبار القادة، ثم يلتفتون إلى شخصيات المستوى الثاني من الولاة أصحاب التأثير ومن في مستواهم داخل الحكم أو خارجه ويلحق بهم كبار العلماء والأئمة، ثم لا يبقى لشخصيات المستوى الثالث إلا بعض لمحات بين سطور التاريخ مبعثرة هنا وهناك، بحيث يصعب على الباحث أن تتكون لديه معلومات تاريخية متصلة بأصحاب هذا المستوى الثالث، مع أن هذه الشخصيات التاريخية غالباً هي القائمة فعلاً بصناعة الأحداث التاريخي، وهم الأبطال الحقيقيون للدراما التاريخية!.
تكتفي الشخصيات التاريخية من المستوى الأول بإعطاء الأوامر من مقاعدها الوثيرة، ويقوم بتنفيذها واقعاً حياً وتاريخيا تلك الشخصيات المجهولة من المستوى الثالث التي لا تحوز اهتمام المؤرخين.
هنا تكمن المفارقة بين التاريخ الواقعي الذي حدث والتاريخ المكتوب الذي يدور فيه المؤرخون حول كبار الشخصيات ويهملون صانعي التاريخ الحقيقيين من المستوى الثالث، بحيث لا يجد الباحث التاريخي في سيرتهم ما يشفى الغليل ويضطر إلى ملء الفجوات باستنطاق الأحداث ووضع الروايات التاريخية القليلة والمبعثرة عن تلك الشخصية في السياق العام لعصرها.
وتتعقد المشكلة أمام مؤلف الدراما التاريخية، حيث تطالبه الدراما بسرد القصة الدرامية في تتابع متدفق متسلسل لا مجال فيه للفجوات وانقطاع الأحداث، وحيث يتحتم عليه إبراز دور الصناع الحقيقيين للتاريخ وهم الشخصيات التاريخية الحقيقية من المستوى الثالث.

الدراما السورية
هناك نقطة إيجابية لا بد من ذكرها، فبعيداً عن التقييم الفكري والتدقيق بصحة ودقة الأحداث، فإن المشاهد عندما يتابع العمل التاريخي السوري يجد نفسه يعيش أجواء تلك الحقبة الزمنية بكل أبعادها من إتقان اللغة الفصحى المقربة من الجمهور البعيدة عن التكلف، إلى الإكسسوار والملابس وتقنية الصوت، حيث نجح صناع الدراما التاريخية في الخروج من القالب النمطي من التصوير في الاستوديوهات المغلقة إلى التصوير الخارجي في الطبيعة، كما تم كسر استخدام الكاميرا الواحدة، واستطاع المخرجون أخذ لقطات بعدة كاميرات للمشهد الواحد، وتركوا مساحة أوسع للصورة كي تتكلم وبطريقة مشوقة عن المشهد والأحداث.

وبكل الأحوال
عندما نشاهد عملاً درامياً تاريخياً من الجيد أن نعود لكتب التاريخ لنوثق معلوماتنا، وعلينا ألا نهجر قراءة التاريخ بشرط ألا نجعلها مادة قصصية للتسلية فقط.
يجب ألا نقع أسرى لأحداث الماضي ونستمر في العيش على أمجاده هروباً من مستحقات الحاضر والمستقبل، علينا ألا نكترث بكلمة «كنا» بل نريد كلمة «سنصبح».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن