ثقافة وفن

المنطقة ليست وليدة المصادفة وفيها كل الممالك الباقية … أباطرة وملوك وأدباء ومثقفون وحقوقيون انطلقوا من سورية ليكونوا سادة في العالم

| المهندس علي المبيض

يحق لنا أن نقول ونفخر بأن منطقة بلاد الشام هي مهد الحضارة الأول في العالم، وكل حضارة على سطح هذا الكوكب تدين بالولاء للحضارة السورية الأولى التي تعتبر بحق مركز إشعاع الحضارة الرئيسي في هذا الكون.
ولاستكمال الحديث الذي بدأناه في المقال السابق نقول إن سورية قدمت للإمبراطورية الرومانية العديد من الأباطرة والذين ساهموا بشكل رئيسي بنشر الحضارة والعلوم والفنون في أرجاء منطقة البحر المتوسط، فمنذ أن ساهم السوريون في تأسيس الدولة الرومانية ثم حكمها الأباطرة السوريون واحداً تلو الآخر تحولت روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية إلى مركز إشعاع للفكر السوري العالمي.

كما أن الأباطرة السوريين الذين اعتلوا عرش الإمبراطورية الرومانية لم يحاولوا أن يبتزوا ايطاليا ولم ينهبوا خيراتها ولم يطبقوا عليها قوانين الدول الاستعمارية نفسها التي طبقتها على بلادنا حين احتلتها، ولم يسرقوا ثرواتها وينقلوها إلى موطنهم الأصلي كما فعلت وتفعل الدول الأوروبية خلال المراحل الزمنية كافة وعلى اختلاف مسميات الحملات والحروب التي شنتها على بلادنا، بل أسهم الأباطرة السوريين كافة بنقل الثقافة والعلوم المتقدمة من سورية والتي كانت تختزن في عقول أبنائها خبرات تراكمية هائلة عمرها أكثر من عشرة آلاف عام بسبب تعاقب الحضارات والثقافات المتنوعة التي توالت عليها.
ولتوضيح الفكرة نستعرض بشكل موجز بعض الشخصيات السورية التي شاركت بفعالية في صنع تاريخ الإمبراطورية الرومانية:

الإمبراطورة السورية جوليا دومنا
ولدت في حمص في أواخر القرن الثاني الميلادي من أصول آرامية تزوجت من القائد العسكري الروماني سيبتيموس سيفيروس وهو أحد ثلاثة قادة للجيوش الرومانية رافقت زوجها في المعارك التي خاضها، ومن حسن طالع هذا الزواج أن أصبح إمبراطوراً رومانياً حيث انتقلت عائلة الملكة من حمص فأصبح تأثير السوريين في الحكم فاعلاً ومؤثراً، منحتها روما لقب «المعظمة» ولقب «أم الوطن»، اهتمت جوليا دومنا كثيراً بالآداب والفنون والفلسفة، وكانت جوليا على قدر كبير من الجمال وتمتلك الكثير من المواهب المتميزة، حدة الذكاء وشدة الدهاء والجرأة والحزم والتخطيط لكل تصرفات زوجها الإمبراطور سيبتيموس وكانت سر نجاحه وسيطرته على أنحاء الإمبراطورية التي كانت تحكم في تلك الفترة نصف العالم.
وأدنت جوليا دومنا إلى بلاطها الأدباء والفلاسفة والمثقفين والحقوقيين وجميعهم من أصل سوري، كما اعتلى ابنها كركلا عرش روما بعد وفاة القيصر سيبتيموس وبعده حفيدها إيلاغبال ومن ثم ابن خالته سيفيروس، كما عملت على جلب اختها جوليا ميزا من حمص وابنتي أختها «جوليا سوميا» و«جوليا ماميا» واللواتي شاركن بصنع تاريخ روما واعتلين عرشها الإمبراطوري بالتتالي.
وأدى ذلك إلى انتشار الثقافة السورية وتزايد نفوذ السوريين في الإمبراطورية ونشر العادات والتقاليد السورية وصبغ المجتمع الروماني بالصبغة الشرقية، هذا التحول دفع الشاعر الروماني جوفينال الذي عاش في أواخر القرن الأول الميلادي ليقول:
إن نهر العاصي يصب في نهر التيبر منذ زمن بعيد حاملاً معه لغته وتقاليده وثقافته ( نهر التيبر هو ثاني أطول نهر في ايطاليا ويرتبط تاريخ روما بتاريخ هذا النهر الذي يخترق العاصمة الايطالية ويصب في البحر الأبيض المتوسط).

الإمبراطور الروماني فيليب العربي
أحد أبرز الأباطرة السوريين الذين حكموا الإمبراطورية الرومانية ولد عام 204م، في قرية شهبا وهي قرية صغيرة تقع في تلال جبل العرب، نشأ في بيئة عربية يدفعها طموحها للعمل الجاد والمثابرة، برز اسمه عندما أصبح ضابطاً في الجيش في مقتبل حياته وأثبت كفاءة عالية على القيادة والشجاعة، ترقى في المراتب العسكرية حتى أصبح قائد حرس الإمبراطور، وفي عام 242م، أصبح فيليب إمبراطوراً فاهتَمّ بتقوية الجيش الروماني وتدريبه وقام بوضع آلية لعمل مجلس الشيوخ وسن تشريعات تهدف لتنظيم عمل الدولة وفصل السلطات، ولم ينس موطنه الأصلي «شهبا» وكان وفياً له، فقد أولى تخطيط مدينته اهتماماً خاصاً ورصف شوارعها، وأقام فيها عدداً من المباني والصروح المعمارية.

المعماري الدمشقي أبو للودور
يعد واحداً من أعظم معماري التاريخ القديم ولد في دمشق عام 80 م، ونهل من العلوم والثقافات التي كانت سائدة في تلك الفترة في دمشق والتي كانت تعتبر سيدة المدن الآرامية، وشغف في فنون العمارة وتأثيراتها التي كانت واضحة في العديد من الصروح المعمارية التي قام بتصميمها وإنجازها فيما بعد.
استدعاه الإمبراطور الروماني تراجان إلى روما حيث قام بإنجاز العديد من الأوابد المعمارية المهمة والتي ابتدع فيها أفكاراً خلاقة في العمارة والفن تجلت من خلالها تأثيرات العمارة الشرقية، حيث أنجز الفوروم عام 114م، وهو ساحة ضخمة تحيط بها أماكن خاصة للحكام والتجار والاقتصاديين والقضاة يجتمعون فيه لتداول شؤون الحكم ولحل مشكلات الدولة، كما صمم وأنجز قصر العدل ومكتبتين ومعبداً وتمثالاً للفروسية، وقوس النصر وحلبة للسباق كانت مخصصة لتمثيل المعارك الحربية، وقد صمم وبنى العديد من الحمامات، كما أنجز عمود تراجان التذكاري والذي مازال قائماً حتى وقتنا الحالي في مدينة روما شاهداً على عظمة السوريين حيث تضم قاعدة العمود مكاناً أودع فيه رماد جثة الإمبراطور تراجان في وعاء من الذهب.
بعد وفاة الإمبراطور الروماني تراجان خلفه في الحكم الإمبراطور أدريان الذي كلف أبو للودور بتصميم وبناء قبة «معبد البانتيون» والذي يعتبر من أهم المعابد الرومانية القديمة، كما قام ببناء جسر «دبروجا» على نهر الدانوب وهو معجزة هندسية مهمة جداً ويعتبر أضخم جسر تم بناؤه في تاريخ روما ولا تزال بعض آثاره باقيةً حتى اليوم.
ولابد في هذا المجال من توضيح أمر مهم جداً، من الضروري معرفته والتيقن منه، وهو أن التاريخ السوري الغني والحافل وتعاقب الحضارات والممالك التي قامت في هذه المنطقة ليست وليدة صدفة أبداً، مملكة ماري، أوغاريت، إيبلا، أفاميا، تدمر، الممالك الآرامية….. وغيرها، بل إن موقع سورية الإستراتيجي منح سورية ومنذ فجر التاريخ العديد من نقاط القوة المتنوعة لتصبح قوة اقتصادية وعسكرية مهمة ، وقد ساعدها موقعها الجغرافي من السيطرة على الطرق التجارية التي تصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، كما أن الأهمية الإستراتيجية لموقع سورية والمشرف على البحر الأبيض المتوسط مكن السوريين ومنذ القدم من سهولة الوصول إلى سواحل ومدن أوروبا وإفريقيا وهيأ هذه المنطقة لتكون زاخرة بالممالك العامرة وحافلة بالحضارات المتعددة، والتي لعبت دوراً رئيسياً في صنع التاريخ الإنساني في سورية والأقاليم المجاورة.
إضافة إلى ذلك فقد امتلكت هذه المنطقة العديد من الأدوات التي مكنتها من نشر ثقافتها وأفكارها وعلومها وفنونها على مساحات جغرافية واسعة وخلال مراحل زمنية طويلة.
وهنا نجد أنه من المفيد الإشارة إلى أمرين اثنين في غاية الأهمية:
الأمر الأول: إن تعاقب الممالك والحضارات والثقافات على سورية لم يفقدها هويتها الحضارية وانتماء سكانها إلى أصل واحد وهو ما يظهر بوضوح من خلال اللغات التي استخدمها السكان إذ إنها تظهر تشابهاً كبيراً في المفردات والصرف والقواعد اللغوية… وغيرها، وكما يتضح ذلك أيضاً من خلال المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد التي كانت سائدة وعلى مدى مئات الأعوام.
الأمر الثاني: إن سورية قد استطاعت تحقيق وحدة حضارية وثقافية متكاملة امتدت خارج حدودها الطبيعية، وهذا ما يتضح جلياً عند دراسة التحولات التي طرأت على المجتمع الروماني على سبيل المثال عندما تعاقب السوريون على حكم الإمبراطورية الرومانية.
إننا نحاول من خلال ما تم استعراضه التأكيد على النقاط التالية:
– أهمية التاريخ السوري كأحد أهم روافع الفن والفكر والثقافة والاقتصاد والتنمية المجتمعية، وهذا ما سنأتي على الحديث عنه مفصلاً في المقالات القادمة.
– الإشارة إلى المكتشفات المهمة والتي كان لها أثر واضح في تطور العلوم والفنون والثقافة في أرجاء العالم، فسورية قدمت للعالم أول أبجدية، وأول نوتة موسيقية، وأول محراث، وطحن القمح، وتدجين الحيوانات، وصناعة الزجاج، ومن أوغاريت أبحرت السفن عبر البحر الأبيض المتوسط حاملة معها العلوم والفنون إلى كل أرجاء العالم…… وغيرها.
– التأكيد على وحدة السكان والجغرافية وعراقة التراث الثقافي السوري، ومن ثم عظمة سورية وأصالة السوري وتمسكه بأرضه ودأبه الدائم لمد جسور التواصل الحضاري مع الآخرين بغية نشر علومه وفنونه وثقافته.
ونؤكد على ما ذكرناه بالمقال السابق من أن الإنسان السوري، الذي أسهم قديماً في صناعة هذا التاريخ المشرف، وشارك في بناء الحضارات، جدير بأحفاده اليوم إعادة بناء ما تهدم ورأب ما تصدع، والمشاركة بفعالية في المنظومة الحضارية والمحافظة على مخرجات تلك الحضارات التي يحاول أعداؤنا بشتى الوسائل والأساليب تدميرها والتي تشهد على عظمة هذا التاريخ الحافل لأكثر من مليون عام.
سورية الراسخة….
سورية الشامخة….
ستبقى عصية على الأزمات التي تعصف بها، كما تجاوزت خلال عمرها الطويل كل الأزمات التي مرت بها.

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن