الشعب أساس
| د. نبيل طعمة
مغالطات هائلة تعبث بأفكارنا، تعيث فيها تخلفاً وتقوقعاً وتمسكاً بالإرث القادم فقط من الروحي الذي يسيطر على تاريخنا الذي يقول: إننا من أحفاد سام أو حام أو يافث أبناء نوح عليه السلام.
طبعاً هذا الفكر الذي نستند إليه فكر توراتي محض، العالم وصل إلى عمر للكون بلغ أربعة عشر مليار سنة، ونتاج البحث والتقصي اكتشف إنسان نيدرتال ستة ملايين سنة، وإنسان جاوا أربعة ملايين ونصف المليون سنة، وإنسان لوسي في الحبشة ثلاثة ملايين ونصف المليون، ونحن نقول: إن عمرنا سبعة آلاف سنة، أو أربعة آلاف، أو ألف وأربعمئة سنة.
كيف يكون هذا مع تصارع الأيديولوجيات والثقافات والأديان وطوائفها ومذاهبها والتطورات العلمية الهائلة وانتشار الأحزاب وشعاراتها القائلة والقائمة من وعلى أنها قائدة للدول والمجتمعات؟ وكذلك تعمل كل دولة حينما ترفع شعار أنها مديرة أو قائدة لشعبها ومؤسساتها.
ماذا تعني هذه المقولات التي في مجموعها تمثل لغة تعبيرية لا حضور فيها لها، إن لم يكن هنا أو هناك شعب مؤسس قليلاً كان أو كثيراً، ونحن بوصفنا أمة عربية تاريخية وشعب حي وحاضر نتحدث في تكوينها المتصل عبر الحقب التاريخية، الذي لم ينقطع عن الحياة، لأنه ظهر من جوهر هذا الكون، والجوهر أساس الوجود، وبما أن هذا الجوهر كما خص الآخرين باللغات الصينية والإنكليزية والروسية وبالمقدسات، خصنا بلغة العروبة ومقدساتها، أنزلت عليه واعتمدت بعد ظهورها وانتشارها من ضمن تكوينه إلى الشعوب الأخرى وتطورها أيضاً، فأخذت في الحسبان بعد اعتبار مكونات لغته العربية القائمة من اللغات السامية، واللهجات مرتبطة مع بعضها بعلاقات وثيقة، كالرابطة الأسروية التي تنتمي إلى سلالة سام، وقد نسبت شعوبها إليه، فكانت لغتها السامية، وقسمت اللغة العربية إلى العربية الفصحى مع كامل لهجاتها العربية القديمة والحديثة والكنعانية، وضمت العبرية القديمة والحديثة واللغة المسمارية والفينيقية والسريانية والآرامية والآشورية والبابلية، لماذا وصلت إلى اللغة العربية؟ لأنها قادمة من الجوهر الذي شكل العروبة، والانتماء لها يأخذ بنا إلى الدفاع عنها، وعندما ندافع عن لغتنا ندافع عن موطنها الذي صبغنا منه، وحوّلنا إلى وطنيين، ما يعني أنه مادمنا آمنا بلغتنا، تعززت عروبتنا التي تمثل جوهر وطنيتنا، ترسم ملامحنا بدقة، وتعيد إظهارنا على أن كل من يتمسك بها ويحافظ عليها كأساس يبني عليه ويستمر منه التواصل المكون للشعب الذي يؤمن بأن العروبة جوهر وطنيته، والجوهر أساس الوجود، والوجود لا يكون إلا بشعب، كيف بنا لا نصل ذاك الإيمان الذي يتمتع به الآخرون.
انظروا وتأملوا الروسي والصيني والهندي والإفريقي والأوروبي بتنوعاته، وما يمتلكونه من وطنية، وحتى حداثة الأمريكي في الوطنية الاصطناعية، على الرغم من أنه قادم من شتات ولجوء وهجرات، إلا أن الكل حملوا له الانتماء، وذهبوا إلى الأفضل أداءً، ما أحدث لهم التقدم، ومنحهم لغة الوطنية العالية.
لقد وقَّع الإله مع العرب عقداً أزلياً من خلال الوحي ونتاج التأمل العميق في تكوين هذا الكون، فأنزل عليهم قرآناً بلغتهم مع ذات الوحي، وأرسل لهم عبره نبياً كان خاتم الأنبياء والرسل، كما وقَّع مع الآخرين بالمواصفات الإيحائية ذاتها، وأخذ من الجميع العهد والميثاق، وتبادلوا معه الثقة، فأكمل بذلك مثلثه المقدس، وهذا دليل روحي على أحقية العرب في الحياة والإسهام فيها بشكل نوعي ودقيق، وفي الوقت ذاته تم إغلاق مثلث القداسة مع الديانتين المنزلتين اليهودية والمسيحية إلى ما لا نهاية، والسؤال الآن عن هذه الأمة التي وجدت لتبقى: كيف تحافظ على وجودها وحضورها ولغتها العربية وعروبتها وقوميتها؟ ألا يحق لكل ناطق بمفرداتها بالخوف عليها، وهو يجدها تتآكل من مظهرها، وتقضم رويداً رويداً بفعل تكالب الأكلة على قصعتها؟
النزوع إلى الأمام مع الاستعانة بالأصالة التي لا تتقبل الركون إلى القديم يهدف للمضي نحو المستقبل الذي يدعونا لأن نعمل له، كي يكون أكثر إشراقاً لنا ولأجيالنا، هذا الذي يجب أن يحفزنا لبناء الفكر المتكامل مع إدراك وثيق لمعنى بناء فكر تقدمي متحرر، تلهمه الوطنية التي تعتمر فكره الباحث عن حياة علمية دقيقة وراقية، لذلك أجدني أتحدث عن لغة العروبة التي ظهرت من جوهر عالمنا المتعدد في اللغات والألوان، ومنحت سمة العرب لشعبها الذي تمسك بها، وكانت فريدة في توثيق مقدسها، وجعلت من ذاتها نبراساً ومرجعاً للشعوب المسلمة من غير العرب، وأهم من هذا وذاك، أتابع ومعي الكثرة من أبناء سورية المهتمين بشأن العرب والعروبة، وأيضاً أبناء أمتنا العربية عما يتحدث عنه الرئيس بشار الأسد ودعواته؛ بل مطالباته الحثيثة في خطبه واجتماعاته الخاصة والعامة بتطوير مفاهيم العروبة ولغتها والإيمان العلمي بها، وعن ضعف ثقافة الإيمان بالانتصار لها، فالذي لا يؤمن بالنصر لا يناله، ومن يكن ممتلئاً به يصل إليه، حيث لم أجد رئيساً عربياً لغته حال الأمة العربية ولغتها واهتم بعروبتها وقوميتها مثله.
أين الدعوات العلمية والأدبية والثقافية لإدراك النقص واستكماله في جميع مفاهيمها، من البطولة، إلى الشرف، إلى التقدم، إلى النماء؟ كيف بمفكرينا ومثقفينا يحيون على طرفي نقيض؟ كيف بهم يخترقون من جوهرهم إلى مظهرهم؟ أين هم من منظومة القيم والبناء الفكري الذي يجب أن يتجلى على أمتنا العربية وحضورها القومي الذي يظهرهم على أنهم يستحقون لقب القدوة بحق.
أيها الشعب العربي أين تقف؟ هل تخليت عن لغتك وعروبتك وأمجادك وحاضرك ومستقبلك وإشراق شمسك، وغلفت قمرك بوشاح العفة؟ فكل ما لديك سليم معافى، إلا أنت فضعفك في تمسكك بأحلامك التي لم تجتهد لتحقيقها، وعجزك أوقف تقدمك عند قناعاتك الروحية، فلم تقدر على تجاوزها، وحياؤك البالي أدى لسيطرة سكونك عليك، وما تحمله من شرف أنثوي ألهاك عن شرفك الوطني الإبداعي.
هل آمنت أيها الشعب يوماً بالنظام والانتظام، أم إنك ابن الصحاري والبراري والقفار متعلق بالانفلات، تريد الوصول إلى الجنان من دون عناء؟ هل امتلكت أسس القوانين وقواعد الاحتكام إليها، وعرفت من خلالها واجبات العمل والتمتع والترفيه، وجهدت لامتلاك فنون الجمال والجنس والطهر الحقيقي لا الاصطناعي، أوَلم تتعلم أيها الشعب العربي أن الهرب من التعب تعب، والخوف من الموت موت، وأن في الإقدام راحة، والبناء في الدولة عبادة وشرف ومجد ورفاعة؟
الشعب أساس الحياة، محركها ومبدع أممها، ومسور دولها، ومنجب قادتها، وإداراتها وحماتها جيشها، وهو أمنها ومنتج إبداعاتها، ولم تقدر جميع الحروب الاصطناعية من التقليدية إلى النووية أو عنف سلطان الطبيعة عليها من زلازل وبراكين وطوفانات أن تنهيه، لأن شعباً ذا إرادة يستمر ولا يفنى، الفرق يكمن في القدرة على امتلاك قواعد التكوين والبناء عليها أو الاستسلام لقدره، مع العلم أن القدر لا يتقبل الاستسلام له، ومنه نخلص أن الوصف يتبع الموصوف، أي إن العرب والعروبة جوهر شعبنا وسمته ووصفه، لذلك نحمله مسؤولية الاشتغال العلمي والعملي لهذه السمة وهذا الوصف، وإلا نكن سائرين إلى حالة مفجعة؛ انقسامات وانهيارات وتخلف وتبعية.
هل ندرك ما أدركته الشعوب الأخرى، وندخل إلى عمق ما يتحدث عنه الرئيس الأسد مطالباً شعبه أولاً والشعب العربي برمته بأن ينتبهوا إلى الجوهر، ويعملوا على إضاءته بالعلم والمعرفة وثقافة الروح الإيمانية الجامعة لا المفرّقة.