من دفتر الوطن

صعود إلى أسفل

| حسن م. يوسف

قبل أكثر من عشر سنوات بقليل، جمعتني رحلة عمل إلى عمان مع المؤرخ والباحث شمس الدين العجلاني، له ولابنه الإعلامي الشهيد ثائر العجلاني الرحمة والذكر الطيب. بعد أن تعشينا في الفندق خرجنا نتمشى في شوارع عمان، كانت الشوارع شبه خالية فقلت لأبي ثائر، بين الجد والمزاح، إن جل عواصم العرب– عدا القاهرة – لا تعدو كونها قرى كبيرة. يومها انبرى أبو ثائر، الدمشقي العريق، للدفاع عن مدينته، فذكرني بأنها أقدم عاصمة ما تزال مأهولة في تاريخ البشرية، وراح يعد مزاياها وإنجازاتها الحضارية، ومن بين الأشياء المدهشة التي قالها لي عن دمشق وجود دار للأوبرا فيها منذ العقد الأول من القرن الماضي. لا أنكر أنني استغربت كلام أبو ثائر آنذاك، لأنني أثناء كتابتي لمسلسل «أخوة التراب» قرأت كل ما طالته يدي عن تاريخ مدينة دمشق خلال الربع الأول من القرن العشرين، ولم أقع في الكتب التي قرأتها، على أي ذكر لدار أوبرا في دمشق. وقد التقط العزيز أبو ثائر ما كان يدور في رأسي، نظراً لأن وجهي يفضحني غالباً، وينطق بما لا يقوله لساني، وقد استفزت شكوكي الزميل العزيز أبا ثائر، فقال لي بما يشبه الوعيد إنه سيرسل لي صورة لدار الأوبرا في دمشق عقب عودتنا إلى الديار. لكن يبدو أن مشاغله أنسته الأمر ولم يكن حالي بأفضل! لذا نام الموضوع حتى يوم أمس الأول، وسر استيقاظه أن صديقاً عزيزاً لفت انتباهي إلى صفحة قيمة على الفيس بوك باسم أستاذ يدعى عماد الأرمشي، وقد فوجئت بأن الأستاذ المذكور لم يحدد شكل (أوبرا العباسية) وحجمها وطراز عمارتها وحسب، بل حدد موقعها بالدقة التامة ونشر صورة فوتوغرافية لها ملتقطة عام 1925! يقول عماد الأرمشي:
« تم بناء أوبرا العباسية على شكل مستطيل، ضلعه الطويل موازي لطريق السليمانية / سعد اللـه الجابري، وجُعل من طبقتين، طابقه الأرضي تم بناؤه وتنفيذه على نمط بناء العمائر العثمانية المتأخرة والتي تأثرت بفن عمارة (الباروك العثماني) ذات الأقواس العربية الإسلامية المطعمة بالحجارة الأبلقية السوداء والبيضاء في تركيب الأقواس ويتخللها نوافذ زجاجية لإثراء عتبات النوافذ بصبغة جمالية بديعة وللاستفادة منها للإضاءة. وقد استعمل هذا الطابق كمقهى أنيق وجميل.
بينما يختلف نمط بناء طابقه العلوي عن الأرضي ونفذ على طراز العمائر الإيطالية البديعة والتي انتشرت انتشارا واسعا بتلك الحقبة، واستعملت الأقواس الغوطية ذات الرأس المحدب ويتخللها نوافذ زجاجية لإثراء النافذة بصبغة جمالية وللاستفادة منها للإضاءة كما هو الحال في الطابق الأرضي… وقد شيدها (عباس أفندي المنيمني) البيروتي الأصل، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها.
وقد علمت من ألسنة حال أخرى بقلم الأستاذ عماد الأرمشي أن دار أوبرا العباسية هذه استضافت العديد من الفنانين البارزين منهم موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي غنى على مسرحها عام 1928 وقد كانت أسعار تذاكر حفلته تبدأ بمئة قرش سوري أي ليرة واحدة وترتفع إلى أربع ليرات.
يوم الخميس الماضي تلقيت من أحد الفنادق ذات النجوم المخمَّسة إعلاناً عبر تطبيق (واتس أب) يبدأ بفعل أمر: «كونوا معنا بسهرة من العمر…» الخ (!) مع الريس فلان والنجم علتان، أما أسعار البطاقات فهي تصاعدية حسب قرب الطاولة من النجمين الساطعين! فهي تبدأ من خمسة وثلاثين ألف ليرة سورية للفرد الواحد وترتفع لمئة ألف ليرة سورية، «متضمن العشاء والمشروب والضريبة!»
وإذا قارنا سعر البطاقة الأغلى في حفل عبد الوهاب بسعر البطاقة الأغلى في حفل (النجمين المعاصرين) سنجد أنهما أهم من محمد عبد الوهاب بخمس وعشرين ألف مرة!
«فيا له من عمل صالح يرفعه اللـه إلى أسفل»!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن