ما زلنا وسنبقى!
| زياد حيدر
عندما كنا صغاراً قسمنا موسم الصيف البحري إلى قسمين. الأول هو الذي يسبق غزو قناديل البحر، والثاني هو الذي يلي أفول آخر قنديل، حيث يحلو الإحساس بأن الصيف سيلتئم مع الخريف من دون منغصات كبرى. كانت القناديل بدأت حملتها على شواطئنا منذ نحو ثلاثة عقود، تأتي من دون موعد، وتبقى من دون ترحيب، وترحل من دون ضغط، فقد كانت لسان الطبيعة الذي يقول إن خللاً أصاب السلسلة البيئية.
مع ظهور تلك الكائنات الهلامية، انتشرت شائعات كثيرة، من بين أكثرها طرافة، قول أحد المتثاقفين إن إسرائيل وراء هذا الخلل البيئي، وإن هدفها إفساد الموسم السياحي في بلدنا. حينها لم يكن ثمة سياحة دولية تذكر لدينا، وكانت السياحة الداخلية فقيرة ومن دون آفاق. وحين بدأت معاهد الأبحاث البحرية تقول كلمتها، هنا، وفي دول الجوار، استخلصت أن المشكلة إقليمية وليست محلية، وأنها ناتجة عن خلل في سلم الغذاء البحري، حيث زاد التلوث البيئي من نفوق السلاحف البحرية التي تنخدع بأكياس النايلون، ظناً منها أنها قناديل، تأكلها فتموت، ما سمح للقناديل بالتكاثر بكميات هائلة.
مع الوقت لم تعد قناديل البحر هي المشكلة الوحيدة، فبدا الأثر البيئي في أكثر من موضع، فقل عدد الأسماك التي يمكن صيدها بوسائل شرعية، وتراجع وجود عدد كبير من الكائنات البحرية التي كانت تستوطن الصخور البحرية، بما فيها التي تتوسط المياه العميقة، وامتد لسان البحر، ليأكل من الأراضي، فالتهم جدران الأبنية والمطاعم، المرخصة وغير المرخصة، وعانى شبيحة البحر (موجودون كما غيرهم) في نصب أسوارهم من أملاكهم امتداداً على أملاك الشاطىء العام نزولا في مياه البحر، لمنع المواطنين الآخرين، من كسبة الخمسين ألف ليرة وما دون، من عبور مستعمراتهم.
رغم ذلك ظللنا نسبح، علماً أن المنتجعات الفاخرة ليست قدرتنا، وتلك المتوسطة لا تسمح الموازنة الاقتصادية العامة بارتياد يومي لها، وتلك الشعبية، يرافق ارتيادها ما يرافقه مما يمكن تحمله وما لا يمكن تحمله.
وشيئا فشيئا مع مرور السنوات، بات الشاطئ ملاصقا للبيوت، أو الشاليهات بالعرف العقاري، وتلك بنيت من دون بنية تحتية للصرف الصحي، فصارت مياه المجارير تصب في مياه البحر بين المستحمين، على اختلافهم. وبين وقت وآخر، تكب إحدى البواخر فائضها من البترول، فيصل إلى الشاطئ ويصبغه مع باقي كائناته بالسائل الأسود اللزج، وبين حين وآخر ينفض معمل الأسمنت غباره الفائض فيه، فتنقلب زرقته لوناً بنياً سميكاً، تختفي تحته الأسماك نهائياً. ودوما يمر بين رؤوسنا وأجسادنا ركاب الموتورات البحرية المهربة بكل قلة ذوق ومخاطرة، ورغم ذلك ننزل ونسبح، لأنه كما يردد صديقي، هذه الشواطئ التي لا يهتم بها أحد، ولا يحتجزها أحد خلف أسواره الشائكة، هي من «نِعَمْ الكريم» على أهلنا، فليس ثمة «متنفس صحي (بين قوسين) رخيص وممتع كهذا المتنفس، المنبسط الزرقة أمام سهول الساحل».
وما زلنا نسبح، لأنه البحر، ولأنه بالعرف والقانون، بالتاريخ وبالتراث الشفهي، ووفق كل القصص التي ألفنا سماعها من أهلنا، بحرنا، وملاذنا، وسبيلنا للهروب من منغصات كثيرة، حياتية، وبيئية، واقتصادية، واجتماعية، وغيرها.
وللمفارقة، بات لافتاً أن القناديل ذاتها باتت رحلاتها قصيرة لشواطئنا، وإن جاءت لا تطول إقامتها، أما نحن، فحتى اللحظة لم نسمح لكل ما سبق أن يمس شغفنا بهذا البحر. بحر بلادنا.