ثقافة وفن

رفاته إلى كولومبيا في صحن رواق دير ميرسيد…رماد ماركيز ونحت برونزي في احتفالية لائقة

مها محفوض محمد : 

بعد وفاته في نيسان 2014 وإحراق جسده لم يتخذ القرار أين سيستقر رماد رفاته في المكسيك أم في كولومبيا أم سيتم توزيع الرفات بين البلدين ففي كولومبيا كان المولد والنشأة الأولى وفي المكسيك كان خيار العيش لسنوات طويلة فهو الكاتب الذي تشاركه البلدان وأحبه المكسيكيون بقدر ما أحبه الكولومبيون.
غابرييل غارسيا ماركيز (1927- 2014) الروائي المنتمي إلى ضمير الإنسانية الذي يعتبر بحق عبقري الأدب اللاتيني وهو الصحفي والمناضل السياسي، كتب روايات كبرى بوأته مكانته العالمية في الأدب، من منا لم يقرأ «مئة عام من العزلة» أو «الحب في زمن الكوليرا»؟ ولو لم يكتب ماركيز سوى هاتين الروايتين لكان سيصل إلى ما وصل إليه غير أنه قدم الكثير من الروايات المهمة الأخرى لقرائه لعل أبرزها «وقائع موت معلن» و«الأوراق الذابلة» و«الجنرال في متاهته» و«خريف البطريرك» وكان آخرها «ذكرى عاهراتي الحزينات» عام 2004، قارنته الصحافة بالكاتب فرانسوا رابوليه في أسلوبه وبـ«سرفانتس وفيكتور هيغو» بسعته المدهشة كما تمت مقارنته مع الأديبين مارك توين وتشارلز ديكنز.

بعد مضي عام ونيف على وفاته واعتقاد الكثيرين أن رفاته ستبقى في المكسيك حيث عاش عقوداً من الزمن وأقيمت له مراسم جنائزية كبرى يوم وفاته في عام 2014 تقرر اليوم إعادة رفات ماركيز إلى بلده الأصل كولومبيا وسيتم ذلك ابتداءً من 12 كانون الأول القادم في كارتاجينا المدينة الواقعة على البحر الكاريبي التي بدأ فيها غابرييل مهنته وخط سطوره الأولى وإذا كان قد عاش في مكسيكو الجزء الثاني من حياته فإن كارتاجينا بدأ فيها عمله كصحفي وكان يتابع دراسته في الحقوق وفيها كتب مسودة أول رواية سماها (La Casa) ومنها استلهم أفكاره لعدد من رواياته اللاحقة ولاسيما «الحب في زمن الكوليرا» وفي عام 1949 انتقل منها لكن جزءاً من عائلته مع والديه بقوا فيها لذلك كان دائم العودة إليها لزيارتهم حتى نهاية حياته.
ولدى انتشار الخبر بإعادة رفات الأديب الكبير إلى الوطن الأم ظهرت علامات السرور على وجه الناس وأصدقائه الكولومبيين واتخذ القرار بأنه سيتم عرض الرفات في صحن رواق دير ميرسيد الواقع على بعد أمتار من بيت الكاتب مع تمثال نصفي من البرونز لماركيز نحته صديقه الفنان البريطاني كات موراي وسيشكل التمثال جزءاً من صرح الرفات، ويتبع الدير لجامعة كارتاجينا التي تأسست عام 1827 وهي أقدم مؤسسة تعليمية عليا في منطقة الكاريبي الكولومبي بحسب البيان الصحفي الصادر عن مديرية بوليفار فإن خيار المكان جاء ثمرة اتفاق بين العائلة ومحافظ البلدة يقول صديق ماركيز الكاتب بلينيو ماندوزا:
لقد عاد أخيراً إلى كارتاجينا التي أثرت بشكل عميق في حياة الكاتب الشاب وفي تجاربه وأعماله وها هي جامعة كارتاجينا تحتضن الصرح الذي سيضم رفات ماركيز العظيم. وبهذه المناسبة تحدث جان ميشيل بلانكيه المؤرخ المختص بتاريخ كولومبيا إلى صحيفة لوفيغارو عن الأسلوب المتفرد لماركيز قائلاً:
إن مكانته مهمة جداً وله دور المؤسسة في الأدب اللاتيني الذي أصبح بفضله أحد أهم الآداب العالمية بدءاً من أعوام الستينيات والسبعينيات ولم يكن نيله جائزة نوبل للآداب عام 1982 سوى اعتراف بحركة جماعية استمرت ثلاثين عاماً ومنذ روايته «مئة عام من العزلة» بدا مؤسساً لخط أدبي جديد مفعم بالحيوية وهو ما سمي الواقعية السحرية إذ يخلط عناصر الواقع برؤية سوريالية تقريباً.
لكنه في الأغلب يستوحي من تاريخ أمريكا اللاتينية وبأسلوبه المتفرد الذي عبر فيه عن روح أميركا اللاتينية جعل منه رأس المقدمة لفن أدبي جديد، وعن المقاربة الشعرية للرواية عند ماركيز يقول بلانكيه: في خطابه يوم تلقى جائزة نوبل قال ماركيز عبارة تلخص جيداً هذا التقارب: «إن الشعر هو الشاهد الأكثر وضوحاً على وجود الإنسان» لقد أراد القول إن المقاربة الشعرية بالمعنى القديم للمصطلح موجودة بشكل أساسي في حياة الإنسان وهي انعكاس أو صدى للإنسان.
فالشعر متجذر ليس فقط في الحلم بل في الحقيقة في واقع يعلمنا كيفية التفوق عبر الفن الشعري وبرهن أن ذلك يمكن أن يمر عبر جميع الأجناس الأدبية ولاسيما الرواية، إن ماركيز مسكون بمسألتين أساسيتين: العزلة والسلطة، ففي روايته «جنرال في متاهته» هناك انعكاس فلسفي لوحدة الإنسان وعزلته في السلطة.
وعن ذلك يتحدث أيضاً الفيلسوف الفرنسي أوميسون قائلاً: لقد ميزت الواقعية السحرية للأديب الكولومبي المئة عام الأخيرة بطريقة لا تندرس، إن روايته الكبرى «مئة عام من العزلة» هي كقصيدة شعر حادة في عالم حقيقي وهذا ما ميزه بعمق وليقول لنا حتى بعد موته: لهذا نالت رواياتي اعترافاً عالمياً.
لقد جسد وسيبقى يجسد بطريقة رائعة عبقرية الأدب اللاتيني حيث يروي أشياء غريبة سحرية لكنها مشبعة بالواقعية وقد شكل منذ عام 1967 ظاهرة ومع فئة من كبار كتاب أمريكا الجنوبية ممن أبدعوا حالة جديدة في الأدب كان الازدهار الرائع لـ«بورخيس وكورتازار وفارغاس يوسا» وطبعاً لماركيز الذي حقق انتصاراً عالمياً.
هذا وكان قد تم الكشف عن عمل أخير لماركيز لم ينشر وهو مشروع رواية تركها الكاتب غير مكتملة عنوانها «سنلتقي في آب» غير أن صحيفة لافانغوارديا الإسبانية نشرت الفصل الأول منها وكانت رغبة الناشر راندوم هوس نشرها بعد الوفاة وهي قصة بدأ ماركيز كتابتها خلال أعوام التسعينيات ويبدو أنه لم يكن مقتنعاً كثيراً بنهاية الرواية فكان خياره عدم نشرها إلا أن الناشر طرح القرار مجدداً على العائلة وبعد رحيل ماركيز نشرت الصحيفة الإسبانية على موقعها الفصل الأول من الرواية وهي قصة امرأة تدعى آنا ماغدالينا باش متزوجة عمرها 52 عاماً تأتي في كل عام وفي اليوم ذاته لتزور قبر أمها المدفونة في جزيرة حارة تأتي إليها يوم 16 آب عبر مركب يعبر إلى الجزيرة حاملة معها قميصاً أصفر اللون وحذاء دون جوارب ومظلة من الساتان ومنشفة تفرش على الشاطئ ويبدو أن الرواية كانت معدة لتكون مجموعة قصص متعاقبة حول البطلة ذاتها بحسب جيرالد ماتان كاتب السيرة الذاتية لماركيز، وقد لاقى الفصل الأول منها ترحيب كتاب ونقاد تواصلوا مع صحيفة لافانغوارديا.
أخيراً وكما هي ممتعة قراءة روايات ماركيز من المفيد أيضاً استذكار بعض ما جاء في رسالته الأخيرة التي وجهها إلى قرائه:
تصرف اليوم لأن الغد قد لا يأتي ولابد أن تندم على اليوم الذي لم تجد فيه الوقت من أجل ابتسامة أو عناق، حافظ بقربك على من تحب، لن يتذكرك أحد من أجل ما تضمر من أفكار، قل ما تشعر به وافعل ما تفكر فيه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن