الدراما الإذاعية هل باتت خارج السمع؟ … مواجهة معادلة صعبة عبر تحول الإذاعات إلى موجة FM ذات الإيقاع السريع
| وائل العدس
للإذاعة جمهور خاص، وهناك فئات من عشاقها، منهم قطاع كبير من كبار السن الذين قضوا أحلى أيام شبابهم في الجلوس أمام المذياع وفئة كبيرة ربات البيوت.
المذياع كان الصديق المقرب للإنسان في كل مكان كالسيارة أو عند النوم مثلاً، وربما يعود في المستقبل بشكلٍ أكبر، لأن الناس تعبوا من كثرة الصور التلفزيونية وهم بحاجة لقليل من الراحة، وبما أن «الأذن تعشق قبل العين أحياناً» كما قال الشاعر بشار بن برد، فإن التالي استثارة الخيال في الإذاعة تكون أكبر.
ورغم تضاؤل دور الإذاعة فإن الناس يركبون سياراتهم ويستمعون للأغاني والأخبار والبرامج والمسلسلات، وكثرتها أدت إلى خصخصة الإذاعة كوسيلة إعلامية، خاصة مع استخدام الرسائل القصيرة والتواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وأمام الهجمة الكبيرة من وسائل الإعلام الحديثة انصرف عنها نسبة كبيرة من الجمهور، وأصبحت علاقتهم مرتبطة بها ببعض الأوقات للاستماع للبرامج الخفيفة والأغاني.
ومع الحضور الكثيف للتلفزيون واليوتيوب وتحول الجمهور إلى انتقائي في ما يريد أن يتلقاه من الإعلام، تضاءل استماع الناس للإذاعة وأصبح الاختيار محصوراً بنوع البرنامج الإذاعي مثل الموسيقا الكلاسيكية، والجاز، والأخبار.
الدراما فعل إنساني
فن الدراما موجود في دماء كل منا، نحب أن نصنعه أو نتفاعل معه، ولا يمكن لأي منا أن ينسى أمتع لحظات طفولته، وهو يستمع إلى حكايات جدته ويشد إليها شداً، ثم ينام ليعيشها في أحلام منامه كما عاشها في أحلام يقظته.
ولا بد للدراما أن تحتوي على صراع بين قوتين، كصراع الإنسان مع نفسه، أو صراع الإنسان الخيِّر مع الإنسان الشرير، أو صراع الإنسان مع بيئته، أو صراع الإنسان مع القدر، فكل ذلك فعل إنساني، يتم فيه صراع ذو مبررات، ينتهي بنتائج منطقية ومقبولة.
وباعتبار الدراما فعلاً إنسانياً فهي إذاً تعتمد على المحاكاة، وهي تقتبس مادتها من الحياة، لأن الدراما لا تنقل الواقع نقلاً مباشراً أو مطابقاً، بل إنها تظهر الواقع بالأسلوب الفني المطلوب، وبالطريقة التي تجعل العمل الدرامي عملاً فنياً متكاملاً، ولأن الإنسان هو المحور الرئيسي للعمل الدرامي، فإن فن الدراما يبقى بقاء الإنسان، ليقدم التجربة البشرية الدائمة التي تبرز مشاكل، وتساهم في التعايش مع عواطفه وأحاسيسه.
الدراما الإذاعية
أن تمتلك القدرة على تمثيل كل مشاعرك وأحاسيسك بصوتك فقط ذلك يعني أنك محترف في التمثيل الدرامي الإذاعي، ولكن أن تكتب الدراما الإذاعية لتفتح مجال الخيال لدى المستمع، هذا هو الاحتراف بذاته.
تؤدي المسلسلات الإذاعية رسالة لتصحيح بعض المفاهيم الخاطئة، بفضل سهولة التلقي والمتابعة أثناء التنقلات من خلال مدة لا تتجاوز 15 دقيقة.
في الماضي وقبل انتشار الدراما التلفزيونية كانت الدراما الإذاعية تحتل مكانةً في حياة الناس، لكن في هذا الزمن تغير كل شيء.
الدراما الإذاعية اليوم تواجه معادلة صعبة عبر تحول الإذاعات إلى FM ذات الإيقاع السريع ومنافسة التلفزيون، ما أدى إلى ندرة ذلك الفن العريق واقتصاره على بعض المناسبات والأعياد.
هذه الدراما مرهونة بطلب المحطات الإذاعية، وللأسف تم تحجيمها، وليس للمستمع علاقة بهذا التحجيم، بل على العكس فإنه يرحب بها دائماً، وعلى سبيل المثال فإن كثيراً من الناس مازالوا مواظبين على الاستماع إلى برنامج «حكم العدالة» كل ثلاثاء عبر إذاعة دمشق.
ربما يجد البعض هذه الدراما الأجمل إن أحسن إعدادها، لأنها تعطي فرصة لخيال المستمع وقدراً من المتعة، ومعها يقضي المستمع وقته -على الطريق- بلا ملل، وبأجوائها الممتعة ومفرداتها وأصوات مؤديها، تمر المواقف في خياله وكأنها شريط مصور.
وأهم ما يميز الدراما الإذاعية عما سواها هو أن كل متلق يكون مشاركاً في إخراج العمل بتخيله له، وكل يأخذ منه على قدر قريحته وخياله.
دور كبير
كان للمسلسلات الإذاعية دور كبير لم يقل شأناً عن حكايات الجدة والأم التي تربينا عليها، والجيل القديم لديه ذاكرة قوية تجاهها، وإلى اليوم الفرصة متاحة لظهورها ثانية، لكن الإذاعات باتت تفضل بث برامج وأغانٍ تحصل من ورائها على مردود أفضل بدلاً من المسلسلات، خاصة بوجود رعاة البرامج.
بين AM وFM
كانت الدراما مرتبطة بإذاعات AM ذات المجال الواسع للحديث والحوار، وما زالت موجودة ولكن على نطاق بسيط ويتم بثها على الطريقة القديمة.
مع ظهور إذاعات الدراما الإذاعية هل باتت التي رصدت الحياة اليومية بطريقة سريعة وتناولت الموسيقا بكثرة، اختفت الدراما.
ولأن المستمع ليس لديه وقت للاستماع في عجلة الحياة، أصبح التوجه نحو إذاعات ذات الإيقاع السريع والأغاني والبرامج والمسابقات الملائمة لذوق الشباب، إضافة إلى أن المسلسل الإذاعي كان مكلفاً على المحطات الخاصة.
مواقع التواصل
لا بد من الاعتراف بأن التلفزيون والإذاعة باتا يعانيان معاً مشكلة العزوف عنهما، لأن شبكة الإنترنت بدأت تنافسهما بشدة، فمن خلال هاتفك الجوال مثلاً صرت تسمع أي أغنية أو تشاهد أي مسلسل، إذ تعددت خيارات المتابعة والمشاهدة، غير أننا نستطيع استعادة نشاط الإذاعة وألقها وحضورها، وذلك بإعادة الاعتبار إلى القضايا الحياتية الملحة، فشعبنا بطبيعته ميال إلى كل ما هو محلي، يفضل الرواية التي تحاكي واقعه ويتابع المسلسل التلفزيوني الذي يتبنى قضاياه، مع الإشارة إلى أننا شهدنا في السنوات الأخيرة تراجعاً في الدراما السورية التي ذهبت باتجاه قضايا سطحية بعد أن احتلت ولعقدين من الزمن معظم الشاشات العربية، وربما هذا ينسحب على الدراما الإذاعية التي تحتاج إلى تعميق طروحاتها، والوقوف عند معاناة المواطن السوري.
وفي حال اعتبرنا أن مواقع التواصل الاجتماعي لا تنافس الإذاعة، لأنها لا تستقطب الأشخاص الذين يتنقلون في سياراتهم، فإنه لو تم وضع المسلسلات الإذاعية على مواقع التواصل الاجتماعي فإنها ستحقق المتابعة أكثر من المعتاد.
الإذاعة السورية
ورغم أن إذاعات موجة FM لم تتمكن من تقديم دراما إذاعية تحقق الصدى الطيب، فإن إذاعة دمشق العريقة تصر على التمسك بتقليد الدراما الإذاعية خاصة أنه سبق لبعض مسلسلاتها أن حققت نسب حضور أكثر من التلفزيون.
وقد نشأت الدراما في إذاعة دمشق أوائل الخمسينيات بعد تأسيسها مباشرة، على يد رئيس دائرة التمثيليات ممتاز الركابي الذي كتب وأخرج ومثّل في عدد من الأعمال التاريخية والعالمية واستعان للتمثيل فيها بادئ الأمر ببعض المذيعين والمذيعات مثل فؤاد شحادة وعادل خياطة ولمياء الشماع وبدر المهندس والطلبة المشاركين في برنامج الطلبة الأسبوعي وبرنامج الأطفال مثل خلدون المالح ونجوى صدقي ويارا المالح وعدنان حبال إلى جانب الأعمال الدرامية الإذاعية التي كان يكتبها ويخرجها وصفي المالح وأكرم خلقي ويستقدمان لها ممثلين وممثلات هواة من النادي الشرقي للتمثيل والموسيقا والنادي الفني مثل عدنان عجلوني وسامي جانو ونهاد قلعي وأولغا غنوم وعبد الرحمن آل رشي وهدى شعراوي وفاطمة الزين ويعقوب أبو غزالة.
وقد كسبت الإذاعة آنذاك مخرجاً موهوباً درس وتدرب في القدس والقاهرة هو تيسير السعدي الذي كان مع حكمت محسن وأنور البابا وفهد كعيكاتي وعبد السلام أبو الشامات ورفيق سبيعي أعضاء في الفرقة السورية التي سميت فيما بعد فرقة المسرح الحر، وضمت سعد الدين بقدونس وعبد اللطيف فتحي ونزار فؤاد وهاشم وعمر قنوع ونور كيالي ومحمد طرقجي ومحمد العقاد.
أما في الإذاعة فقد استدعى ممتاز الركابي هؤلاء الفنانين المسرحيين من دمشق وحلب للعمل في الإذاعة فاستجابوا بحماسة وراح حكمت محسن يكتب بواكير أعماله الإذاعية الرائعة.
وهي بالمناسبة لم تكن كلها كوميدية بل تراجيدية أيضاً وشكلت قاعدة انطلاق راسخة ومدرسة أساسية للدراما الإذاعية السورية باللهجة العامية، رافقها استمرار تقديم التمثيليات الإذاعية المعدّة عن المسرح والرواية وكتب التاريخ العربية وغير العربية باللغة الفصحى وما زالت هذه الأعمال كلها موجودة في الأرشيف.
وقد عمدت إذاعة دمشق منذ عقود طويلة إلى إنتاج وبث برامج درامية، ثقافية أو اجتماعية وأخرى كوميدية أسبوعية أو يومية بنوعية جيدة.
إذا، الدراما الإذاعية السورية فن عربي رائد يسير ويتطور في الاتجاه الصحيح من غير أن يخضع لأي هدف تجاري أو ترويجي.