من دفتر الوطن

الأخرس الفصيح!

| عبد الفتاح العوض

ثمة ظاهرة لافتة في المجتمع لها علاقة بالقدرة على إبداء الرأي.
فنحن في مجتمع يُحاسب الناس على آرائهم، ويتم تقييمهم على هذا الأساس، بل يتم التعامل معهم قرباً وبعداً بناء على ما يقولونه، لهذا فإن الظاهرة تنوس بين ألا يبدي الإنسان رأياً وأن يحتفظ به، وعليكم أن تراجعوا كم المقدسات والمأثورات والحكم التي تمتدح الصمت وتذم الكلام، أو أن يقدم الإنسان رأيه كما يشتهي جليسه، بحيث يتعامل مع الرأي كسلعة المهم أن ترضي الزبون.
تقنية إرضاء الآخر تقوم أولاً على معرفة ما يحب سماعه، ثم يبدأ في العزف على رغبات وآراء الجليس وخاصة إذا كان من ذوي الأمر.
إذا أردت أن تقارن بين ألا تبدي رأيك وبين أن تبدل رأيك حسب الطلب فإنه بالمقارنة يبدو أن تلوّن الرأي أسوأ جداً من الاحتفاظ به.
ولعل هذه الحالة ليست جديدة على المجتمع السوري لكنها في سنوات الحرب أصبحت أكثر وضوحاً، ورغم تنافر الآراء والمواقف فإن «البعض» بقي يحافظ على هذا التلون البشع.
النموذج الذي أراه أكثر فجاجة في هذه الظاهرة أولئك الذين غادروا سورية، وبغض النظر عن سبب المغادرة، وبلا أي حق للوم فإن الشيء المثير للاستغراب أن يتحول الأخرس فيهم إلى الفصيح!
وهو في بلاد أخرى أوروبية أو خليجية أو غير ذلك فإن مستوى الفصاحة لديه يرتفع لدرجة أنه يصبح ناقداً لكل شيء.
ولاشك أن في سورية الكثير الكثير مما يستحق النقد والانتقاد، وأكثر منه ما لا يعجب معظم السوريين.
لكن هؤلاء أصبحوا أكثر كفاءة في النقد والكلام ما إن وصلوا إلى مطارات تلك الدول أو إلى شواطئها! هؤلاء كانوا أكثر سرعة على «الاندماج» مع مجتمعاتهم الجديدة وأصبحوا يتحدثون عن سورية كما لو كانوا «مستشرقين» زاروها في رحلة بحث تاريخية ثم عادوا إلى بلدانهم الأصلية وآن الأوان ليكتبوا عما شاهدوه وسمعوه وعايشوه في رحلتهم «القصيرة»!
والغريب أن معظمهم كان يعمل لمصلحة مؤسسات «رسمية» جداً، غالباً ما أحاول أن أجد أعذاراً للآخرين، وبشكل أو بآخر أفتش عن هذه الأعذار لكن في حالة هؤلاء لم أجد لهم عذراً.
قضية حق إبداء الرأي والأسلوب الذي تبدي به الرأي تحتاج إلى ثقافة مجتمعية عامة.
للأسف لا نمتلك هذه الثقافة حتى الآن، ولاشك أن حياة سياسية طبيعية تحتاج إلى تنمية مهارات القدرة على التعبير وإبداء الرأي مع كل الاحترام للآراء الأخرى.
بين الصمت وعدم إبداء الرأي وبين التطرف في التمسك بالرأي علاقة ما تشبه علاقة إخوة الرضاعة من الجهل. كل الحالات خاطئة ويبدو أننا نعانيها وإذا فكرنا بالحلول لهذه الظواهر بالتعامل مع التعبير عن الرأي فسنحتاج إلى شبكة معقدة من الاقتراحات، وكلها تحتاج إلى وقت طويل لأننا نتحدث عن ظاهرة اجتماعية لا يمكن تغييرها بسهولة أو في وقت قصير.
بين أن نحتفظ بآرائنا خوفاً أو نبديها غروراً تكمن الفضيلة.

أقوال:
لا يمكننا أبداً التأكد من أن الرأي الذي نحاول كبته رأيٌ خاطئ، ولو كنا متأكدين فكبته سيظل إثماً. – جون ستيوارت ميل
الإنسان الذكي كالإنسان الغبي، كلاهما يعد من يخالفهما في الرأي إنساناً غبياً. – فيودور دوستويفسكي
من نكد الدنيا أن يكونَ الرأيُ لِمن يملِك، لا لِمن يرى. – المهلب بن أبي صفرة.
نؤمن بوجود العالم الآخر، لكننا لا نؤمن بوجود الرأي الآخر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن