ثقافة وفن

السوريون.. أبناء ثقافة واحدة … عمران سورية يظهر عمق ما وصلت إليه من رقي

| المهندس علي المبيض

في البداية لابد لنا أن نوضح أننا نهدف من نشر هذه المقالات الأسبوعية إلى إضاءات بسيطة على تاريخنا المشرق الذي يحكي قصة حضارات امتدت على كل شبر من الجغرافية السورية التي ساهمت بشكل كبير في الحضارة الإنسانية العالمية، وهدفنا من ذلك التأكيد أننا أبناء ثقافة واحدة.. هي وطننا جميعاً، وهي العروة الوثقى والرابطة التي توحد آمالنا وآلامنا..
وهي معقد الآمال والثقة في هزيمة مشاريع التفتيت والتقسيم التي تستهدف شخصية الأمة قبل أن تستهدف حدودها وجغرافيتها.
ثقافتنا هي هوية ذات جذور عميقة في التاريخ، وهي ثمرة ما أنجزناه عبر التاريخ وحتى هذه اللحظة.
أجمع الباحثون والآثاريون أن منطقة بلاد الشام كانت موئل الحضارات التي خلفت لنا آثاراً عديدةً تدل على أنها كانت الموطن الأول للإنسانية التي منحت العالم كنوز الحضارة فيما بعد، وفي بلاد الشام حضرت معظم الشعوب السائدة ذات يوم الأكاديون، الكنعانيون، الأموريون، الفينيقيون، الآشوريون، الآراميون، الأنباط.. كانوا جميعاً من أمة واحدة.
وسنتابع في هذا المقال ما ابتدأناه في المقالات السابقة حيث نقدم لمحة موجزة عن ثلاث حضارات مهمة جداً قامت فوق هذه الأرض الطيبة، وفي ثلاثة أماكن مختلفة من سورية للتأكيد على وحدة الثقافة والحضارة.. التي امتدت على كامل الجغرافية السورية، والأمثلة المشابهة لذلك كثيرة والتي تبرهن على عظمة سورية وأصالة السوريين.

مملكة إيبلا
تعتبر واحدة من أهم الممالك السورية القديمة يعرف مكان مملكة إيبلا حالياً باسم تل مرديخ ويقع على مسافة 55 كم جنوب غرب حلب بالقرب من بلدة سراقب التابعة لمحافظة إدلب، بنيت خلال الأعوام 2400 – 2300 قبل الميلاد، بلغ عدد سكانها بحسب السجلات المكتشفة 250000 نسمة، على الرغم من صعوبة تحديد خريطة نفوذ مملكة إيبلا بدقة، إلا أنه يمكن القول إن المناطق التي تحكمها إيبلا امتدت من الفرات حتى سواحل المتوسط ومن طوروس حتى منطقة حماة، وامتد نفوذها شمالاً حتى بلغت الأناضول وسيطرت على طرق التجارة باتجاه البحر الأبيض المتوسط وكانت تعتمد إيبلا على أسلوب التوسع للسيطرة على التجارة حيث كانت مدينة ماري خلال فترة من الفترات خاضعة لها، وكان ميناء مدينة أوغاريت تؤمّه السفن التي تحمل الذهب إلى إيبلا، كما أقامت إيبلا علاقات تجارية مع جزيرة قبرص الغنية بالنحاس.
وبنيت مدينة إيبلا بشكل منظم وفق أسس تخطيط عمراني متطور قياساً لتلك الفترة يعكس ثقافة وتمدن المجتمع في إيبلا، وزوّدت المملكة بأنظمة للري والزراعة وتخطيط الطرق، وقد عمل سكان مملكة إيبلا في الزراعة والصناعة والتجارة فقاموا بزراعة الزيتون والكروم واستخراج زيت الزيتون، واهتموا بتربية الأغنام والأبقار، كما نشط أبناء مملكة إيبلا في صناعة الأنسجة التي تعتمد على صوف الأغنام وانتشرت هذه الصناعات في بقية المدن السورية والممالك التي ظهرت لاحقاً وتطورت هذه الصناعة وتم إدخال الأصبغة الملونة عليها وكانت هي أساساً لصناعة البروكار التي اشتهرت بها سورية وأصبح جزءاً من الموروث الشعبي.
وتحدث الكثير من النصوص التي تم العثور عليها في مصر القديمة عن شهرة مملكة إيبلا في تجارة أخشاب شجر السرو والصنوبر والسنديان والدلب التي كانت تحصل عليها من غابات جبال طوروس والجبال الساحلية، وراجت فيها فنون الترصيع بالأحجار الكريمة النادرة.
وعثر في قاعة الأرشيف الملكي في إيبلا على العديد من الرقم والوثائق التي تبرز أهمية هذه المملكة ودورها القيادي في تلك الفترة، كما تضمنت هذه الرقم العديد من النصوص الأدبية مثل «ملحمة جلجامش» وتم العثور على المعجم اللغوي النادر الذي أعطانا معاني سلسلة من الكلمات السومرية، كما كشفت هذه النصوص قواعد التعليم المتبعة في الألف الثالث ق. م وبعض التمارين اللغوية التي كتبها الطلاب، وبعض المنحوتات والتماثيل التي تدل على المستوى الثقافي والفني لأبناء إيبلا وتطور الحركة الفنية فيها، وتم العثور ضمن هذه النصوص على أقدم معاهدة سلام قدمتها إيبلا للبشرية عقدت بين مملكة إيبلا ومدينة أبارسال تحدد الواجبات والحقوق المترتبة على طرفي المعاهدة ومن المؤكد أن إبرام المعاهدة تكشف عن الذهنية السياسية المتقدمة التي كانت سائدة في تلك الفترة ومدى وعي وثقافة المجتمع الذي رافق ذلك.
إن تطور مملكة إيبلا وازدهارها جعلها مطمعاُ للممالك المجاورة كما عرضها للعديد من الحروب والغزوات، حيث تم تدميرها من ملك الأكاديين عام 2250 ق. م، وبعدها مرّت إيبلا بفترة من التدهور السياسي والاقتصادي.
في ظل السلالة العمورية نشطت مملكة إيبلا من جديد خلال الفترة مابين1900-1600 ق. م وبدأ عصرها الذهبي الثاني، وعادت لتلعب دوراً متميّزاً في شمال سورية وانتهت هذه الفترة باجتياح المنطقة من الحثيين، ودمرت إيبلا وأحرقت للمرّة الثانية عام 1600 ق. م.
استمرت الحياة في إيبلا بعد ذلك بشكل محدود خلال الفترة الآرامية بين720 – 535 ق. م واستمرت الحياة في الموقع حتى بداية القرن السابع الميلادي، ثم طوي ذكر إيبلا لغاية بداية أعمال التنقيب عام 1964م.

مملكة ماري
من أهم الممالك الأمورية التي قامت في سورية بل تعتبر ماري من أشهر المدن القديمة في الشرق، يعرف موقع مملكة ماري حالياً باسم « تل الحرير» وهو يقع على بعد حوالي120 كم جنوب شرق مدينة دير الزور، و10 كم شمال غرب مدينة البوكمال.
أظهرت نتائج الحفريات التي تمت في منطقة ماري أن الاستيطان البشري فيها يعود إلى الألف الخامس قبل الميلاد أما الاستيطان في المدينة نفسها فيعود إلى عام 3000 قبل الميلاد والذي امتد تاريخها من2900 ق.م إلى 1750 ق.م.
مملكة ماري مثيرة للآثاريين.. قامت فيها عدة حضارات توضعت آثارها فوق بعضها فقد كشفت الحفريات والتنقيبات الأثرية عدة مستويات متوضعة فوق بعضها وكان المنقبون وخلال أعمال الحفريات يفاجؤون بمستوى جديد يكشف عن حقبة كاملة مختلفة عن سابقتها، ففي عام 1935 اكتشف قصر يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد، ومع استمرار التنقيبات تم اكتشاف قصر آخر تحته يعود إلى عام 2700 قبل الميلاد، ثم تكشف مستوى آخر يعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد.
من أهم المكتشفات الأثرية في ماري هو القصر الملكي وقد كان يعد في وقته إحدى عجائب الدنيا وبني على مراحل متتالية، يتكون القصر من 300 غرفة وفيه قاعة العرش وجناح إداري وآخر للمراسم وعدد كبير من الفراغات المعمارية وممر وباحة ويمتد على مساحة نحو 25 دونماً، تم العثور في مكتبة القصر على أرشيف مملكة إيبلا الذي يزيد على أكثر من خمسة وعشرين ألف رقيم مكتوب باللغة المسمارية وباللغة الأكادية مكنت علماء التاريخ والآثاريين من إعادة قراءة تاريخ المنطقة وفق مفاهيم جديدة كشفت عنها مكتشفات ماري، كما سلطت الضوء على مدى ازدهار المدينة والحروب التي خاضتها مع المدن المجاورة لتضمها تحت نفوذها وتحقق بذلك وحدة جغرافية بزعامتها، كما عثر على تماثيل مختلفة من الطين والحجر منها تمثال جميل جداً لمغنية المعبد أورنينا وتمثال عشتار وحامل العجل والطحان والعديد من التماثيل التي سلطت الضوء على المستوى الفني للمجتمع في ماري ونوعية المواد المستخدمة التي كانت متوافرة في تلك الفترة.
بلغت ماري قمة تطورها وازدهارها في بداية الألف الثاني قبل الميلاد وشكلت قوة سياسية واقتصادية ومحطة تبادل تجارية مهمة حيث كانت تقوم بلعب دور الوسيط التجاري، ويرجع الفضل في ثراء مملكة ماري إلى موقعها المهم الذي ساعدها في تجارتها البعيدة بوصفها ملتقى طرق المواصلات الكبيرة حيث كانت تتحكم بطرق التجارة والمواصلات البرية والنهرية وكانت ممراً تجارياً رئيسياً لكل القوافل التجارية التي تحمل البضائع والمواد الغذائية التي تصدرها المدن السورية المختلفة إلى بلاد الرافدين، النبيذ، الأخشاب، الزيوت، وزيت الزيتون والعسل.
وحققت من وراء ذلك إيرادات مالية كبيرة انعكست إيجابياً على ماري، فتم تنفيذ العديد من المشاريع العمرانية والزراعية ومد شبكات الري وتحسينها وتوسيعها بهدف زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة كي تستطيع ماري الاكتفاء الذاتي من زراعة الحبوب وسد حاجتها منه والاستغناء عن الاستيراد الخارجي.
إن موقع ماري الجغرافي المتميز وارتفاع إيرادات المملكة كان من الأسباب التي دفعت حكام المدن والممالك المجاورة للتفكير بغزوها والاستيلاء عليها والاستفادة من مواردها وخيراتها وجني الأرباح الكبيرة التي كان يجنيها ملوك ماري من الحروب والغزوات، فشنت عليها الحروب عدة مرات كان يتم تدميرها ومن ثم إعادة إعمارها بعد كل حرب، إلى أن أجهز عليها حمورابي الملك البابلي عام 1750 ق.م وتم هدم أبنيتها وأسوارها ثم اختفى ذكرها نهائياً لغاية بداية اكتشافها مجدداً عام 1933.

مملكة اوغاريت
يعرف موقع أوغاريت حالياً باسم «رأس شمرة» يبعد نحو 10كم شمال مدينة اللاذقية، ورد ذكر مملكة أوغاريت في العديد من النصوص التي اكتشفت في مملكة إيبلا وفي النصوص التي تم اكتشافها في مملكة ماري، وبينت التنقيبات الأثرية أن موقع أوغاريت كان مسكوناً منذ الألف السابع قبل الميلاد.
تعتبر أبجدية أوغاريت واحدة من أعظم الاختراعات التي عرفتها البشرية، وهي أقدم أبجدية في التاريخ ولم يكن اختراع أبجدية أوغاريت من قبيل المصادفة بل كانت البيئة الثقافية والعلمية في أوغاريت مهيأة لذلك تماماً، فقد كان يلتقي فيها التجار من مختلف أنحاء العالم حاملين معهم علوماً وثقافات متعددة، واستوعب أبناء مملكة أوغاريت هذه العلوم فهضموها وأضافوا إليها علومهم وثقافاتهم وهي نتاج الحضارات العديدة التي مرت على هذه المنطقة، وتتكون أبجدية أوغاريت من ثلاثين حرفاً ساكناً تكتب من اليسار لليمين على ألواح طينية تجفف تحت أشعة الشمس أو تشوى في أفران مرتفعة الحرارة.
بلغت أوغاريت قمة ازدهارها في منتصف الثاني قبل الميلاد، وكانت مركزاً تجارياً مهما يتم فيه تبادل البضائع بينها وبين المدن المجاورة وكان تجار أوغاريت يصدرون بضائعهم عن طريق البحر إلى مصر وصور وعكا.
ونظراً لما تشكله التجارة من أهمية لدى مملكة أوغاريت فقد بينت الرسائل المكتشفة عن قيام أوغاريت بعقد اتفاقيات مع الممالك الأخرى المجاورة لحماية تجار أوغاريت وسلامة بضائعهم، وتتكون صادرات أوغاريت الرئيسية من منتجاتها الزراعية كالحبوب وزيت الزيتون والعسل والأخشاب والأصواف أما وارداتها فكانت المعادن الثمينة والأحجار الكريمة والقصدير والحلي والجواهر، وكانت أوغاريت تملك أسطولا كبيراً يتكون من 150 سفينة.
صوبت اكتشافات إيبلا الاعتقاد الذي كان سائداً لدى المؤرخين والباحثين من أن الحضارات انتقلت إلى سورية من منطقة النوبة والنيل في مصر ومن بلاد الرافدين، وأكدت أن سورية هي بلد صانع للحضارة وليست متلقية لها فقط، حيث ساهمت الحضارات التي قامت فوق هذه الأرض الطيبة في صياغة الحضارة الإنسانية ولعبت الاختراعات التي قدمتها للعالم دوراً كبيراً في تقدم مناحي الحياة كافة.
وفتحت سورية بذلك صفحة من صفحات تاريخها المشرق والحافل والذي كما ذكرنا سابقاً أنه يمتد لأكثر من مليون عام.
قد تستطيع الحروب أن تدمر المباني والمدن لكنها أبداً لاتستطيع أن تهزم حضارة سورية الراسخة.. سورية الشامخة..حيث ستبقى عصية على الأزمات التي تعصف بها، كما تجاوزت طوال عمرها المديد كل الأزمات التي مرت بها.

معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن