إستراتيجية ترامب على خطا تكتيكات نيكسون
| أنس وهيب الكردي
كيفما أجال المرء بصره، يجد أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يهز العالم، الأصدقاء والمنافسين على السواء. الأوروبيون، الصينيون والإيرانيون هم أكثر الحانقين على ترامب، الروس، الخليجيون والإسرائيليون هم أكثر من راضين عن أدائه.
لكن، فعلاً ماذا يريد هذا الرئيس الذي يستيقظ العالم على وقع تغريداته وتصريحاته الدراماتيكية؟
الواضح أن ترامب يعمل على تحويل النظام الدولي بذات الأسلوب الذي استخدمه سلفه ريتشارد نيكسون في سبعينيات القرن الماضي. في ذاك التاريخ، خشي نيكسون من تراجع قدرة بلاده على إدارة صراعها مع الاتحاد السوفييتي، على حين تنخرط في حرب رهيبة على فيتنام قسمت الأمة الأميركية. من جهة أخرى، كانت أميركا على عهد نيكسون، تكافح تضعضع هيمنتها الراسخة على النظام الاقتصادي العالمي، عندما تكاثفت الضغوط على الدولار الأميركي بسبب الصعود السريع لاقتصادات أوروبا واليابان.
هكذا حلل نيكسون التحديات الماثلة أمام بلاده: الاتحاد السوفييتي الخطر الأكبر بما يحوزه من نفوذ جيوسياسي في أنحاء الأرض، وما يملكه من رؤوس نووية وصورايخ عابرة للقارات وأخرى تكتيكية فاقت ما لدى الولايات المتحدة، على حين تقف أوروبا واليابان موقف المنافسين الاقتصاديين للأميركيين في مختلف الأسواق العالمية. فوق كل ذلك كانت واشنطن غارقة في المستنقع الفيتنامي الذي بدا من دون نهاية أو أفق حقيقي بالسلام. وكان هناك طرف لم يكن منخرطاً في المعادلة الدولية إن لم يكن معزولاً عنها، غارقاً ومستغرقاً في نفسه، وفي خلافات حدودية مع جيرانه؛ هذا الطرف هو: الصين.
كانت الصين بعد الثورة الشيوعية 1949، قد تحالفت مع الاتحاد السوفييتي لمواجهة التهديدات الغربية والعزلة التي فرضتها العواصم الغربية على بكين مستبعدةً إياها عن ترتيبات النظام الدولي. في الستينيات، فقد التحالف الصيني السوفييتي زخمه، وأخلى مكانه أمام صراع حدودي ضاري. لقد فاقت خشية القادة الصينيين من هجوم يشنه شركاؤهم السوفييت الشيوعيون على بلادهم، خشيتهم من عدوان أعدائهم الرأسماليين. وكان إخفاق «الثورة الثقافية» والإجراءات الاقتصادية التي جاء بها الحزب الشيوعي الصيني، أحد العوامل التي خلقت لدى القادة الصينية رغبة في الانفتاح على الغرب من أجل تحديث اقتصاد الصين المتداعي وإنقاذ الشعب من المجاعات.
اعتبر نيكسون ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر الصين كقفل قنطرة في أي إستراتيجية أميركية متماسكة للرد على كل جزء من أجزاء المشهد العالمي المتحول؛ كانت بكين ستوفر مساعدتها الضرورية للولايات المتحدة من أجل التوصل إلى تسوية في فيتنام، كما أن العلاقة الصينية الأميركية ستضرب قيداً على تحركات الاتحاد السوفييتي في آسيا وأوروبا، وتجعله يحرص على المحافظة على «الانفراج» مع الأميركيين والتفاوض معهم بنية حسنة، من دون محاولة استغلال مصاعبهم حول العالم. أخيراً، كانت الصين البكر ستوفر سوقاً للمنتجات والشركات الأميركية تمكنها من الوقوف بشكل أكثر رسوخاً في مواجهة المنافسين الاقتصاديين الصاعدين. بناء على هذه الحسابات رتب كيسنجر زيارته السرية إلى بكين. وكان ما كان.
كان المنطق الجيوسياسي أكيداً، فنيكسون كان سيرسي أساس تحالف جديد مع الصين الضعيفة من أجل احتواء الاتحاد السوفييتي القوي جيوسياسياً ونووياً، والذي يمثل التهديد الجوهري للمصالح الأميركية. وكانت عملية تشكيل التحالف، مستمدة برمتها من قواعد الدبلوماسية التقليدية التي رسختها ممارسات القوى الكبرى في القرن التاسع عشر، وحظيت بإعجاب كيسنجر.
عالم اليوم شبيه بذلك العالم عندما ولج نيكسون البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة، لكن مع بعض الاختلافات؛ فالقوى العسكرية والجيوسياسية لم تعد التهديد الذي تعبأ به الولايات المتحدة، وخصوصاً أن منافسيها العالميين لا يملكون أدنى قدرة إستراتيجية على تهديدها، لكنهم مع ذلك يملكون أوراقاً قوة في مواجهة واشنطن توفر لهم الضغط على البيت الأبيض، تحديد ساحة مناورته الدولية، وربما التفوق على الولايات المتحدة في المستقبل. هذه الأوراق بمجملها اقتصادية وتجارية.
يعتبر ترامب أن الصين هي المنافس الرئيسي لبلاده، وأن التنافس بينهما هو في المرحلة الراهنة ينحصر في المجال الاقتصادي مع بعض التوتر الجيوسياسي حول مصير بحر الصين الجنوبي. بالنسبة لإدارة ترامب، معادلات القوة العالمية والتوازن الدولي لم تعد قائمة على أساس مراكز النفوذ الجيوسياسي، حجم الروؤس النووية، وأعداد الصورايخ البالستية الإستراتيجية والتكتيكية، كما كان عليه الحال مع الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، وإنما على سعر صرف عملة الدولة، ما لديها من احتياطي العملات، حجم ناتجها الوطني ومعدلات نموه، فائض ميزان تجارتها الخارجية، وقدرة سلعها المصنعة على التغلغل في الأسواق الأخرى. استتباعاً لهكذا تفكير، من الطبيعي أن يتوجس ترامب من القوة الاقتصادية الأوروبية وبالأخص الألمانية، وأن يرتب للتضييق عليها.
بهدف احتواء الصين والاتحاد الأوروبي المنافسين الاقتصاديين للولايات المتحدة، يولي ترامب وجهه شطر موسكو. ومن شأن انفتاح أميركي قوي على روسيا أن يمكن واشنطن من إدارة أنجع لعلاقاتها مع كل من الصين والاتحاد الأوروبي؛ فعلاقة أميركية روسية حسنة، تبدو مهمة لإستراتيجية ترامب العالمية القائمة على جذب الصين إلى مفاوضات اقتصادية مع واشنطن، يتم الاتفاق فيها على سعر صرف اليوان، وشروط التجارة الخارجية، سبل تصرفها بالاحتياطي الضخم من الدولار الذي تملكه في خزائنها. من جهة أخرى، فإن تقارب روسي أميركي من شأنه أن يدفع الأوروبيين إلى التسابق على طرق باب واشنطن، وبذل بعض التنازلات، وخصوصاً في المجال الاقتصادي. في نهاية المطاف، ربما لا يريد ترامب أكثر من «وفاق» أميركي صيني حول قضايا التجارة والنظام الاقتصادي العالمي، يشابه «الانفراج» الذي أطلقته واشنطن وموسكو في عهد نيكسون.
وكما لم يكن بوسع أحد سوى شخص مثل نيكسون، معروف بمحافظتيه، يمنيته ومعاداته للشيوعية، كي يعبد الطريق إلى بكين، يعتقد ترامب أن سجله يجعله قادراً على إرساء علاقة تعاون روسية أميركية، تبعد موسكو عن بكين، وتضع واشنطن في قلب لعبة التوازنات الدولية، ما بين الصين، أوروبا، الهند، وروسيا، بما يمكنها من التأثير بدهاء في الأحداث العالمية. هكذا، تبدو روسيا مفتاحاً إستراتيجية ترامب العالمية. والحال كذلك على الصعيد الشرق أوسطي، في مواجهة إيران. والقمة التي عقدها ترامب مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة الفلندية هلنسكي، تأتي في سياق ترتيب علاقة أميركية روسية تضغط بها واشنطن على بكين وبروكسل.
يعمل ترامب على إرساء تصميمه الخاص للبناء الدولي، متوسلاً تكتيكات نيكسون، وإن كان محور تركيزه القوة الاقتصادية لمنافسيه بخلاف سلفه من القرن الماضي.