بين مطرقة إدلب وسندان الكمائن السياسية: لماذا يروج النظام التركي لاحتلال حلب؟
| فرنسا- فراس عزيز ديب
(كلما زادَ شعورك بأنَّ الطريقَ آمن، توقَّع أنكَ وقعتَ بكمين)
عبارةٌ وإن كانت بمدلولاتٍ عسكرية، لكنها تُعطينا درساً في جميعِ مناحي الحياة للعملِ على مبدأ أن ليسَ كل ما يلمعُ ذهباً، فالكمائن قد يكون هدفها قتلنا من الداخِل أو أسرنا في صندوقٍ يُمنع علينا التفكير من خارجهِ فتحولنا لقطعانٍ لا حول لها ولا قوة، قد تأتينا على هيئةِ «منافقٍ» من الذين ظنوا أن اللـه لم يهدِ سواهم، ليحاضرَ بك عن «العلمانية» وقبول الآخر، وعندما تحاول تحكيمَ عقلك بأبسط البديهيات، يُخرِج إليك ذاك «الداعشي» الذي كان يختزنهُ ليكفرك. قد يكون الكمين على هيئةِ رجلٍ من أصحاب الخطبِ العصماء التي تُحاضر فينا بحتميةِ الصمود في وجه المؤامرة الكونية التي تستهدفنا، ليخرجَ هذا «الشجاع» وسطَ تصفيق الحاضرين من بؤساءَ ومنافقين فيركبَ إحدى سيارات الموكب الذي ينتظرهُ، كيف لا و«العدو الغاشم» يتربَّص بهِ وبنا، لنذهب جميعاً إلى الجحيم، لكن حذارِ أن يُمسَّ ذاك الذي يجيدُ الخطبَ الرنانة.
في السياسةِ، كما في الحياة كلما ازداد الطريق أماناً، عليكَ ألا تحذر الكمائن فحسب لكن عليك أن تطبق المثل الإنكليزي القائل:
تمنى الأفضل واستعد للأسوأ، ولعل ما يجري في الشمال السوري اليوم وتحديداً من الجهة الشمالية الغربية هي خير مثالٍ على ذلك، فما الجديد؟
مع اقترابِ إغلاق ملف الجنوب السوري بهذه السرعة غير المتوقعة كان السؤال الدائم ما هي المنطقة التالية؟
اللافت أن إنجازات الجيش العربي السوري والحلفاء على كامل التراب السوري فرضت الإجابة بأن إدلب هي التالية، كونها المحافظة الوحيدة المتبقية خارج سيطرة الدولة تحكمها الجماعات التكفيرية والجهادية بما فيها تنظيم القاعدة. أما فيما يتعلق بالشمال الشرقي السوري إنطلاقاً من الرقة، فالقضية هناك تبدو مختلفة بوجودِ إمكانية فعليةٍ للوصول لحلٍّ وسطٍ بضماناتٍ دوليةٍ تقضي بدخول قوات الجيش العربي السوري إليه، تحديداً أن المفاوضات بهذا الشأن جارية بل وقطعت أشواطاً بعد شعور ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد» بأن هناك من تخلى عنها في منبج، وسيتخلى عنهم في باقي المناطق انطلاقاً من الأجواءِ الإيجابية التي ظهرت عليها قمة هيلسنكي بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين.
لكن الوضعَ في ادلب يبدو مختلفاً عن غيرهِ جملةً وتفصيلاً، بل قد لا نبالغ إن قلنا إن العالمَ بأسرهِ سيحبس أنفاسهُ بانتظارِ نتائج هذه المعركة، حتى من كانوا يكذبون الكذبة ويصدقونها عند حديثهم عن «معارضة وثوار» سوريين ثائرين لقلبِ النظام، يعونَ تماماً أن إدلب اليوم باتت المنطقة الأخطر في العالم، لأنها تحتوي خزاناً بشرياً من المتطرفين والإرهابيين ربما لا يضاهيهِ إلا ذاك الخزان الذي تشكلهُ بوهابيتها القميئة مملكة آل سعود، مع فارقٍ بسيط أن الثانية هناك من يعترف بها وبمتطرفيها كـ«مملكة»، كما أن القدرة التركية بالسيطرة على هذا الخزان تؤرق الأوروبيين أكثر من غيرهم، لأنهم يعرفونَ بالنهاية أن النظام التركي لن يوفرَ سلاحاً يمكنهُ من خلالهِ معاقبةَ أوروبا بالكامل، كما أن تركيبة الإرهابيين المتواجدين أساساً في المدينة والذين يغلب عليهم تنظيم جبهة النصرة والتي هي فرع القاعدة في بلاد الشام، بالإضافة لمن لجأ إليها من باقي المحافظات الذين رفضوا أساساً تسويةَ أوضاعهِم والدخول في مصالحة مع الدولة، تؤكد ربما أن ما يُحكى عن اجتراع حلولٍ مشابهةٍ لتلك التي تمت في الغوطة أمرٌ بعيد، أو على الأقل هو أمر مؤجل حتى بدايةِ المعركة لكي يدرك هؤلاء أن قرارَ الحسم واستعادة كل شبرٍ من الأراضي السورية ليس مزحة، لكن ماذا عن الموقف التركي؟
ليس خافياً على أحد أن النظام التركي اليوم في موقفٍ لا يُحسد عليه، فالقيادة السورية باتت تتعاطى مع معركةِ إدلب المنتظرة من مبدأ من شربَ بحرَ التهديداتِ الأميركية والإسرائيلية وأطبق على الجنوب السوري، لن تعييهِ ساقية التهديداتِ التركية، كما أن التحذيرات التركية بانهيار جوهرِ اتفاقيات أستانا إن هاجم الجيش العربي السوري إدلب، كانت القيادة السورية قد تجاوزت ما هو أعقدَ منها أميركياً و«إسرائيلياً» عندما تم تحذيرها بأن الهجوم على درعا سيعني نَسفاً لاتفاقية «وقف التصعيد»، أما الوعود والضمانات المقدمة لإرهابيي إدلب بعدم وقوف تركيا مكتوفة الأيدي لمنع سقوط المدينة، فكنا قد سمعنا ما هو أعلى سقفاً منها عندما قررت القيادة السورية استعادةَ حلب، كلام لا يعدو كونه بناء على الرمال اعتاد عليه النظام التركي الذي كان ولا يزال يسعى لبث الأكاذيب عن قدراته وسطوته في الملف السوري، بل إن ماكينته الإعلامية ذهبت أبعد من ذلك وتجاوزت سياسة دفن الرأس بالرمال بما يتعلق بمعركةِ إدلب ليعود لنغمة «عودة حلب» لحضن سلطنة الإجرام العثمانية، وكان آخر هذه الأكاذيب ما نشرته صحيفة «يني شفق» المقربة من النظام التركي عن محادثاتٍ متقدمةٍ تركيةٍ روسيةٍ إيرانية ستقود بالنهاية لتسليمِ «النظام السوري» مدينةَ حلب لتركيا بهدف إعادة إعمارها، بل إن الصحيفة لم تكتفِ فقط بهذا التخيل الذي يرتقي لمرتبةِ «هبل إعلامي»، بل إنها أكدت أن تنفيذ هكذا اتفاق وربطه باتفاق «كفريا والفوعة» يعني ببساطة أن الكاريدورات الطائفية والعرقية في سورية باتت أمراً واقعاً، أي أن النظام التركي لا يروج فقط للحفاظ على إدلب، لكنه ببساطةٍ يروج لاستعاده حلب، هذا التعاطي التركي غير المتزن يشير ببساطةٍ لأن النظام التركي يعاني أزمةَ وجودٍ في الشمال السوري لأن احتمالية النزوع للسلم شبهَ مستحيلةٍ، والمصداقية باتت على المحك، فهل المعركة فعلياً باتت أقرب إلينا مما نتصور؟
منذ الإعلان عن اتفاق «كفرية والفوعة» الذي قضى بإخلاء القريتين من سكانهما والمدافعين عنهما، كثرَ الحديث عن فكرةِ أن هذا الإخلاء هو نقطة انطلاقِ معركة إدلب كونه يتيح للجيش والحلفاء مزيداً من الراحة في العمليات العسكرية، لكن بواقعيةٍ تامة فإن هذا الكلام يبدو عاطفياً أو حديثاً في الأمنيات لا أكثر، قد يحمل جزءاً من الحقيقة وليس الحقيقة كاملة، لأن واقع الحال يقول بأن حصول معركة إدلب ومقاتلو القريتين لازالوا هناك أفضل، لأنهم سيتحولون لأشبهَ بنقطة استنادٍ ودعمٍ للقوات المتقدمة باتجاه إدلب، كما أن الحديث عن الحرص على حياة المدنيين فيها هو بالنهاية تقليلٌ من تضحيات أهالي القريتين الذين صمدوا لسبع سنواتٍ، والأهم أن كل من في القرية بما فيهما من مدافعين هم أساساً من المدنيين، وبعض العناصر الذين لجؤوا للقريتين بعد سيطرة الإرهابيين على منطقة وادي الضيف، لكن هذا الإخلاء قد يوحي لنا أحد أمرين:
الأول هو شكل بداية الهجوم القادم باتجاه إدلب الذي قد يبدأ من ريف اللاذقية عبر جسر الشغور ما سيعني حكماً نزوح الإرهابيين باتجاه الجنوب والشمال لتشكيل ضغطٍ على القريتين، وهو لم يعد متاحاً بعد تفريغهما ما يعني أن القيادة سحبت ولو جزئياً ورقة من يد الإرهابيين، أما الأمر الثاني فهو متعلق بضربة معلم سياسية أرادتها القيادة السورية للرد على من يروج لفرضية «التغيير الديموغرافي» المترافقة مع كلِّ اتفاق مصالحة، والقضية هنا بدت بصورة عكسية فلو كان الأمر كما يروج البعض تبديلاً ديموغرافياً فلماذا قبلت القيادة السورية بالاتفاق لتخسر ورقة ديموغرافية هامة لا تبدو أنها مضطرة لخسارتها؟
من كل ما تقدم بات واضحاً أن معركةَ إدلب لن تحدث في القريب العاجل كما يتصور البعض، ربما أن نقطة الانطلاق الفعلية لها هي إعلان وزارة الدفاع الروسية قبل يومين عن تعاظم نشاط النصرة وحق الجيش العربي السوري اتخاذ التدابير للرد على النشطات الإرهابية، هذه التصريحات ليست رمياً تمهيدياً لكنها قنابل مضيئة تسبق الرمي التمهيدي، البدء بالرمي التمهيدي سيأخذ أسابيع لسببين:
الأول، تصاعد الخلافات والمعارك بين التنظيمات الإرهابية نفسها، وبمعنى آخر دعهم الآن يأكلون بعضهم بعضاً، أما الثاني وهو الأهم فبات متعلقاً بالنظام التركي تحديداً، الذي لازال يقدم نفسه وكأنهُ الرابح الأكبر من كل ما يجري في سورية، لكن في النهاية لن يكون دخول الجيش العربي السوري مدينة منبج إن نجحت المفاوضات إلا بدايةَ نهايةَ أحلامه التي سندفنها في إدلب في المكان والزمان المناسبين، وبمعنى آخر:
ألم نقل أن العالم بأسره ينتظر معركة إدلب، فقط اتركوا النظام التركي فيها يسير بهدوءٍ وهو يشعر بأن الطريقَ آمن، لعله يبقى متجاهلاً فرضيةَ أنه قد وقع بكمين، وهل هناك أجملَ من الكمائن التي تُحاك على مهل؟!