أولويات الحكومة
| نبيل الملاح
علق أحد الأصدقاء من الاقتصاديين على محاضرة ألقيتها بعنوان «أفكار ورؤى حول إعادة بناء مؤسسات الدولة»، ونشرت في صحيفة «الوطن» بمقالات ثلاثة بالعنوان نفسه، قائلاً: إن كل ما ذكر في المحاضرة من أفكار ورؤى لا يمكن أن يتحقق إذا لم يتم وضع سلم للرواتب والأجور يتناسب مع تكاليف المعيشة، وإن ذلك هو العمود الفقري لأي تنمية اقتصادية واجتماعية، واللبنة الأساسية للقضاء على الفساد.
وسبق أن أثار هذا الموضوع أحد الأساتذة الجامعيين الذين حضروا المحاضرة، وأجبته: إن موضوع الرواتب والأجور يجب أن يبقى دائماً وأبداً في سلم أولويات الحكومة، لكن الواقع الاقتصادي والمالي للدولة لا يسمح بطرح هذا الموضوع حالياً وخاصة في ظل وجود عجوزات كبيرة في الموازنة العامة للدولة، وفي كل الأحوال لا يجوز أن يكون ضعف الراتب وعدم تغطيته لتكاليف المعيشة مسوغاً للفساد، وإن معظم الفاسدين يملكون ثروة وهم ليسوا بحاجة إلى الراتب أصلاً.
بداية علينا أن نقر بما تركته الأزمة من نتائج سلبية في حياة الناس عموماً وفي مؤسسات الدولة وإدارتها، وأن معالجتها والتصدي لها يتطلبان إدارة حكومية كفوءة ونزيهة تعمل لخدمة الوطن والمواطنين بجد وإخلاص ووفقاً لرؤية إستراتيجية يضعها مختصون في الإدارة والاقتصاد والتشريع بمشاركة رجال الدولة المتقاعدين الذين يتمتعون بالعلم والخبرة، بعيداً عن التنظير، وأن يتم إقرار هذه الرؤية في مجلس الشعب بعد استطلاع رأي مؤسسات المجتمع المدني والنقابات ويجب أن توضع هذه الرؤية انطلاقاً مما يلي:
1- ما نص عليه الدستور بأن الاقتصاد الوطني يقوم على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل، وأن السياسة الاقتصادية تهدف إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.
2- يجب أن يكون الهدف الرئيسي للعدالة الاجتماعية تضييق الهوة والفجوة الاقتصادية بين أفراد المجتمع.
3- التأكيد على النهج الاقتصادي الذي يحمي الوطن والمواطن ويقينا من الآثار السلبية لما سُمي بالعولمة التي لا أرى إيجابيات لها على الأقل في المجال الاقتصادي، ولابد من حماية الزراعة والصناعة، فالزراعة هي التي تحقق الأمن الغذائي، والصناعة هي التي تؤمن فرص العمل للمواطنين واستثمار الثروات الطبيعية للبلاد وتدعم الزراعة من خلال تطوير الصناعات الغذائية.
4- الحفاظ على القطاع العام وإصلاحه وإعادة تأهيله ليكون قادراً على قيادة الاقتصاد الوطني، مقابل دعم وتنشيط القطاع الخاص ليكون داعماً للاقتصاد الوطني ومنافساً للقطاع العام وملتزماً بالقوانين والأنظمة التي ترعى حقوق الدولة وحقوق المواطنين من مستهلكين وعمال. وهنا أسأل ما نتائج تطبيق نظام التشاركية بين القطاعين العام والخاص الذي صدر بعام 2015؟
5- إجراء مراجعة شاملة وموضوعية للسياسات الاقتصادية التي انتهجت خلال العقود الثلاثة الماضية في ضوء النتائج التي تحققت، والتي أعتقد جازماً أنها غير مرضية لأغلبية الشعب.
6- إيجاد صيغة فعالة للتفاعل بين المواطن والمسؤول، وبين المسؤول وأصحاب العلم والخبرة الذين لابد من الاستعانة بهم في مرحلة إعادة البناء والتصدي للفساد، ووضع الأسس والمعايير الوطنية لاختيار المسؤولين الذين يتحلون بأعلى درجات المسؤولية والشفافية والنزاهة.
7- التركيز على محاربة الفساد بكل أشكاله وصوره، ومكافحته من خلال محاسبة الفاسدين الكبار الذين نهبوا ثروات الوطن وهربوها خارج سورية، ويجب أن تعم المحاسبة على الفاسدين في السلطة القضائية والسلطة التنفيذية ومن يعمل لحسابهم، في القطاع الخاص بمختلف فئاتهم، ولا بد من إحياء شعار وقانون «من أين لكم هذا».
إن الواقع الاقتصادي والمعيشي يفرض على الدولة العمل الفوري والجاد لتحسين هذا الواقع المؤلم والعسير، ولو تدريجياً، وفق معادلة دقيقة وصارمة بالمحافظة على المال العام وتنمية واردات الدولة ومنع الهدر ومكافحة الفساد مقابل توفير الأموال اللازمة لزيادة الرواتب والأجور وتحسين الأوضاع المعيشية لذوي الدخل المحدود.
لقد تحلى المواطنون السوريون بأعلى درجات الموضوعية والواقعية وتحملوا الكثير، وعلى المعنيين أن يدركوا أن لهؤلاء طاقة محدودة فهل يعقل أن يبقى دخل العامل أقل من تكاليف معيشة أسرته بعشرة أضعاف؟
لا بد ممن حلول سريعة وجدية تبدأ اليوم قبل الغد ولا بد من حكومة قادرة على ذلك بالفعل ولو البطيء وليس بالكلام المعسول.
باحث ووزير سابق