التسوية السورية: تقاطع الدوائر
عبد المنعم علي عيسى :
منذ أن خرجت الأزمة السورية عبر ذلك السعار الخليجي في خريف عام 2011 من إطارها العربي والإقليمي إلى مجلس الأمن الوكيل الحصري لاختفاء –أو قيام- الدول، مُذ ذاك أضحت تلك الأزمة واقعة تحت تأثير أربع دوائر (داخلية- عربية- إقليمية- دولية) متنافرة فيما بينها بل يصل التنافر فيها إلى داخلها أيضاً وهو الأمر الذي يبرّر تلك التوصيفات التي أطلقت على الأزمة السورية بأنها بالغة التعقيد.
يرسم تراصف الشرائح في المجتمع السوري وإعادة تموضعها حدود الدائرة الأولى (الداخلية) ومن المهم هنا أن نذكر ظاهرة برزت خلال الأزمة حتى غدت إحدى مميزاتها وهي ظاهرة التقلّبات العديدة لشرائح المجتمع السوري كنتيجة لحجم الضخ الإعلامي الرامي إلى ذرّ الرماد في العيون وإثارة النعرات العديدة، ومن الممكن القول إن تراصف الجبهة الداخلية على مدار العامين 2011-2012 كان مغايراً تماماً لتراصفها في الأعوام اللاحقة فقد برز منذ صيف عام 2013 نشوء تيار عابر للأحزاب والمنظمات والشرائح يرى في التسوية السياسية خياراً ملحاً ووحيداً للخروج مما نحن فيه.
أما الدائرة الثانية (العربية) فهي تتمثل بالجامعة العربية التي وقعت منذ ربيع عام 2011 تحت سيطرة دول مجلس التعاون الخليجي على اعتبار أنها الكتلة المنسجمة –نسبياً- الوحيدة في ظل غياب محور دمشق- القاهرة الذي كان يشكل مركز الثقل والقرار منذ أن تأسست تلك المنظمة، وفي جميع الأحوال فإن دور هذه الدائرة قد تقزّم (بل تلاشى) منذ أن اعترضت مشاريعه الفيتوات الروسية- الصينية الثلاثة التي كانت ترمي إلى استنساخ السيناريو الليبي في سورية، كما أنها لا تشكل وحدة منسجمة سياسياً في مواقفها تجاه الأزمة السورية أو تجاه أي أزمة أخرى مما تحفل المنطقة به.
وإذا ما أضفنا إلى الدائرة السابقة (العربية) كلاً من إيران وتركيا (بشكل أساسي) ارتسمت أمامنا ملامح الدائرة الثالثة (الإقليمية) التي لا تقل هي الأخرى في تنافرها إن لم تكن تزيد على سابقتيها على خلفية التناقض الصارخ فيما بين الموقفين التركي والإيراني تجاه الأزمة السورية.
ويرسم النظام العالمي القائم حدود الدائرة الرابعة (الدولية) التي تشكّل الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن القطب الأبرز فيها مضافاً إليها قوى أخرى كالاتحاد الأوروبي أو دول وازنة لها اعتبارات خاصة كالهند وفنزويلا- كوريا الشمالية- جنوب إفريقيا- كوبا- البرازيل.
تتسم العلاقة القائمة فيما بين الدوائر الأربع بالتنافر وهي حالة طبيعية قياساً إلى التضارب في مصالح القوى المكونة لها، فسورية بلد ذو أهمية جيوسياسية استثنائية والأزمة التي تشهدها ليست حدثاً عادياً فقد كان البعض يراهن على أنها ستكون الرحم الذي سيولد منه النظام العالمي الجديد (فلاديمير بوتين كانون الثاني 2012) على حين أن البعض الآخر كان يراها على أنها فرصة سانحة يجب ألا تضيع لإعادة رسم التوازنات الإقليمية القائمة في المنطقة بما يحصّن المصالح الغربية فيها (روبرت فورد السفير الأميركي الأخير في دمشق حزيران 2012) العلاقة الناظمة بين تلك الدوائر تحكمه أولوية المصالح الخاصة بالدائرة الرابعة (أو الفاعلين فيها) على حين تستظل مصالح الدائرة الثالثة (الإقليمية) بفيء هذه الأخيرة حتى أنها لا تستطيع حماية مصالحها إلا إذا كانت مرخصة أصولاً وممهورة بأختام الدائرة الرابعة، أما مصالح الدائرة الأولى (الداخلية) فهي تأتي في آخر الطابور نظراً لطبيعة العلاقة القائمة أو التي تربطها بالدائرتين الثالثة والرابعة على حدّ سواء.
من الممكن القول بأن حالة التنافر هي الحالة العامة التي تحكم تفاعل تلك الدوائر مع بعضها البعض إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود لحظات سياسية ناجمة عن تناغمها، وإن كانت تلك اللحظات هي أشبه بالنيازك السياسية التي تسير بسرعة البرق بمعنى أنها تخلق في لحظة تتوافق فيها البرهات الثلاث (الداخلية- المحيط القريب- الخارج المؤثر) وتلك هي التي تحدد حركة النيزك ومساره وما يمكن أن ينتج عنه.
اليوم من الممكن القول بأن هناك حالة تناغم واضحة فيما بين تلك الدوائر كما لم تكن في يوم من الأيام منذ أن دخلت الأزمة السورية حيز النار صيف 2011 بل من الممكن الجزم فيه قياساً إلى رصد حركة تلك الدوائر وأهمها الدائرة الدولية التي يمثل المحور الانغلوساكسوني عمودها الفقري وفيها نرى وزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند يقول: «إن بلاده لا ترغب في سقوط نظام الرئيس بشار الأسد وإنما تريد مرحلة انتقال سياسي (21/7/2015) على حين نرى أن ما ذهب إليه باراك أوباما كان أبعد بكثير مما سبق عندما قال: «على السعودية وإيران الاهتمام بانهيار سورية أو اليمن أكثر من الاهتمام بالعداء فيما بينهما (11/8/2015)».
طبيعة المتغيرات التي شهدتها هذه الدائرة تقوم على تغيرات واضحة في سياسات الغرب تجاه أزمة كادت تعصف بالمنطقة بل العالم، فقد كانت الرؤيا التي يتبناها هذا الأخير (الغرب) تقول: إن محور السياسات الإيرانية في المنطقة هو سعيها لإطباق سيطرتها على سورية كما أن هناك قوى أخرى اليوم تحاول أن تفعل الأمر نفسه مثل جبهة النصرة وداعش، ولطالما كان السؤال المحوري الذي يراود الغرب يقول: هل توسع نفوذ داعش في سورية (وفي المنطقة عموماً) هو أكثر – أم أقل- تدميراً من التهديد الإيراني؟
الآن بات من الجازم القول: إن الإجابة التي أجاب فيها الغرب نفسه عند السؤال السابق تقول: إن توسع داعش يمثل -بما لا يقاس– تهديداً أكبر للمصالح الغربية من تمدد إيراني مفترض، وإلا لما كان هناك اتفاق فيينا 14/7/2015 الذي قرأته واشنطن على أنه خطة محكمة لاحتواء طهران وإعادتها من جديد إلى القمقم الذي كانت فيه منذ مطلع القرن الحالي.
تمر تلك المتغيرات الدولية على كل من أنقرة والرياض لتلقى فيها محاولات التصدي لها لاعتبارات تندرج تحت مسمى «الخاص» ولا علاقة للمصالح التركية أو السعودية بها، فها هو أردوغان يسير وكأن شيئاً من تلك المتغيرات لم يحدث ساعياً وراء «منطقته» الآمنة التي ستكون وبالاً على بلاده قبل أن تكون على سورية، ولا ندري ما هو الضامن (لأردوغان) أن تتحول تلك المنطقة المزعومة إلى ملاذ آمن يحتمي به مقاتلو داعش ومقاتلو حزب العمال الكردستاني على حد سواء، بل من الواجب أن تصل حساباته إلى الحد الذي يرى فيه تحالفاً للجبهتين السابقتين (داعش+pkk) بوجه هذه الغطرسة التركية مع مرور الوقت وفي ظل السياسات المتبعة تجاه كليهما وهو أمر راجح وإن كان –نظرياً- يبدو وكأنه أمر مستبعد.
يأتي حراك دي ميستورا متناغماً مع تلك الرياح الدولية الذي أثبت مؤخراً أنه قارئ جيد لها ففي إحاطته التي تقدم بها إلى مجلس الأمن 29/7/2015 غاب أي ذكر لهيئة الحكم الانتقالية بل ذهب إلى حد المجازفة الخطرة عليه بالإعلان عن رؤيته (الصحيحة والدقيقة) التي تقوم على أن المتغيرات التي تلت مؤتمر جنيف (30/6/2012) كانت من الخطورة بحيث كانت كافية (لا يزال الكلام لدي ميستورا) لأن تنسف الوثيقة الصادرة عنه من جذورها، فمثلاً ماذا كانت تعني وثيقة يالطا (شباط 1945) التي قسمت العالم إلى مناطق نفوذ بين الحلفاء لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي 25 كانون الأول 1991؟
أو ماذا كانت تعني «وديعة» رابين التي حاول السوريون استثمارها بعد اغتيال رابين نفسه 4 شباط 1995؟