ثقافة وفن

المثل الشعبي يعيش مصائرنا ونحن نعيش مصائره … الإيجاز بلا خلل والإطالة بلاملل

| منير كيال

يذهب الدارسون والباحثون إلى أن تشكل الأمثال الشعبية، إنما يعود وينشأ من خلال الأحاديث العادية التي تدور بين الناس. ولم يكن أحدهم يفكر أن يذهب مما يدور بذلك الحديث مثلاً.
لأن ما قالوا كان على سبيل التحدث، ثم انطبق ذلك مع حالات أخرى.
فعندما قالت لميس الحميرية لمن لم يرد وصالها وقد أصبحت في سن أو عُمر المشيب.
الصيف ضيعت اللبن.
لم تكن تقصد من ذلك طرح المثل، وإنما قصدت فوات زمان الحب، كما يفوت موسم اللبن آخر فصل الصيف، ومن ثم أصبح هذا القول مثلاً لمن تفوته فرصة يريد انتهازها.
وعلى ذلك فإن منشأ المثل بشكل عام والمثل الشعبي على وجه خاص، لم يكن يتطلب مفكرين أو أدباء لصياغة هذا المثل أو ذاك ليجري تداول ذلك بين الناس، ولم يكن بخلد القائل أن يذهب قوله مثلاً لأن حديث المرء من الآخر كان من تداعي الخواطر بسياق الأحاديث اليومية العادية بين الناس دونما تفكير أو صناعة أدبية، ذلك أن من أحاديث الناس اليومية الكثير مما يمكن أن يطلق مثلاً أو يجري مجرى المثل، إذا وُجد بالحديث: الإيجاز بلا خلل والإطالة بلا ملل عن سائر الحديث، ومن ثم تماثلت الحال بالأحوال على اختلاف الأزمان والأماكن.. بحيث يكون هذا القول أو ذاك مبعث التأمل والاستبصار، وبالتالي إيراد ذلك يمثل بتداوله الناس بالحالات المماثلة.
وقد كثر الاهتمام بالمثل، فمنهم من ذهب إلى اعتباره نوعاً من التشبيه، ومنهم من قال إن إيراد هذا المثل ضرب من التقريب أو التمثيل. ومن جهة أخرى، فإن من الممكن القول: إن من عوامل الاهتمام بالمثل الشعبي، إنما يعود إلى أن من هذه الأمثال ما يكشف زوايا مجهولة من الحياة، لما هي عليه من وضوح لغتها، وشفافية مضمونها، وواقعية تجربتها فهي تضيء ساحات من رهاب الحياة، بما تدفع به الإنسان إلى التأمل، بما حوله من ظواهر وأحوال وما تشير إليه من خفايا بأعماق الإنسان، حتى أمكن القول بأن الأمثال الشعبية أشبه بمشاعل تضيء أرحب مساحات الحياة، لما تشف تجارب أجيال وأجيال، والتمثل لها، إنما هو محاكاة لما في بواطنها للكشف عن إمكانات مجهولة بحياة المجتمع، لكونها أفكار المجتمع.. والإنسان يتعلم من الأمثال، لأنها حصيلة تجارب المجتمع وخلاصة أفكاره، فهي نبض حس المجتمع، وهي ليست مجرد كلام مسجوع وإنما تولدت عن دراية ومخاض حياة عاشها الإنسان بحلوها ومرّها وقد تمثل ذلك بشتى مجالات الحياة.
يقول المثل: الجار قبل الدار
إنما هو دلالة على أن حسن الجوار لا يكون إلا بحسن أخلاق الجوار.
وهذا الأمر ينسحب على قول المثل الشعبي:
حط إصبعك بعينك… مثل ما بتوجعك بتوجع غيرك.
وقول المثل الشعبي:
إيد فوق إيد.. الخير بيزيد.
وغير ذلك كثير ما يؤكد أن هذه الأمثال خلاصة تجارب المجتمع، ومستودع خبراته، ومنار معارفه، بل مثار ذاكرته، ومرجع عاداته وتقاليده ما تعكس هذه الأمثال من حياة الناس بخيرها وشرها حلوها ومرها كما سبق أن أشرنا إلى أنها وليدة هذه الحياة وأحداثها، ونتيجة للتجارب التي تمخضت عن خبرات ومعارف تتسم بالصدق والواقعية، فهي تعلمنا الحياة تعليماً مباشراً، إذا أحسن الإنسان تلقيها، وعمل على إطلاقها بالحالات التي تشبه الحالة التي قيلت بها أول مرة.
فضلاً عن ذلك فإن أمثالنا الشعبية دائمة التجدد وهي أكثر الحالات ثبوتاً لأنها نتيجة للتجربة والمعاناة، حتى إن من الممكن التأكيد أن أمثالنا الشعبية على معرفة أحوال المجتمع، ونوازعه وثقافته، وأفكاره العامة، لأنها كما سبق أن ذكرنا انتزاع مباشر من الواقع، وتعبير مباشر عن مكنونات هذا الواقع، بما تعتصر التجربة ثم نقولها ببساطة تأكيداً لما يقال.
وقد تناولت هذه الأمثال مختلف جوانب الحياة فأتت سجلاً للأحداث وميزاناً، وإذا كانت هذه الأمثال أكثر الحقائق ثبوتاً، فإنها دائمة التجدد لأنها حصيلة التجربة والمعاناة وإذا أمكن معرفة سبب إطلاق المثل الشعبي ومن ثم تداوله بالحالات المماثلة فإن من الصعوبة بمكان معرفة تاريخ هذا المثل. وإذا كان منطوق المثل الشعبي يتباين بين منطقة وأخرى فإنها في جميع الأحوال تؤدي مفهوماً واحداً، وتلتقي في غرض واحد، حيث إنها تسير على كل لسان وإن كانت مجهولة القائل فهي بمنزلة تفكير الشعب وتعبيره عن تجارب الحياة المشتركة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن