قضايا وآراء

تظاهرات جحيم «تموز» في العراق

| أحمد ضيف اللـه

تتصاعد معاناة العراقيين في جميع أنحاء العراق مع الارتفاع الشديد لدرجات الحرارة التي تتجاوز خلال بعض أيام أشهر الصيف الـ«51» درجة مئوية، والتي تترافق مع رطوبة عالية وانخفاض حاد في ساعات التغذية الكهربائية إلى أقل من عشر ساعات في اليوم، ما يجعل من شهري تموز وآب جحيماً لا يُطاق.
وعلى مدار سنين، أخفق جميع الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الكهرباء في إدارة ملف الطاقة، حيث تولى مسؤوليات مفاصل هذا القطاع بعض الشخصيات غير الكفوءة وغير النزيهة، الذين أتت بهم أحزابهم، وفق نظام المحاصصة المعمول به في جميع المواقع الرسمية الحكومية. ورغم التوقيع على الكثير من العقود الاستثمارية للنهوض بهذا القطاع، التي بلغت بحسب الأرقام المتداولة نحو 50 مليار دولار. لم يُلاحظ أي تحسن ملموس في الواقع الكهربائي. فقد سجل القطاع الكهربائي فشلاً وفساداً فاضحين، متمثلاً في التعاقد على محطات توليد لا تتناسب مع الأجواء العراقية الحارة، أو شراء قطع غيار بمبالغ طائلة، تبين فيما بعد أنها غير مطابقة للمواصفات، أو التعاقد مع شركات غير متخصصة أو وهمية لصيانة محطات الطاقة وأبراج نقل الكهرباء، إضافة إلى الاستهداف الممنهج لمحطات توليد الطاقة ومنظوماتها من محولات وأبراج نقل الكهرباء عالية التوتر من المجموعات الإرهابية المختلفة، وتنظيم داعش لاحقاً، منذ سقوط نظام صدام حسين وحتى تاريخه. وقيام القوات الأميركية «قبلاً» عند بدء عمليات احتلالها للعراق عام 2003 بالتركيز على شل وتدمير المنظومات الكهربائية بكاملها.
إن محافظة البصرة التي تُعد العاصمة الاقتصادية للعراق، تضم أضخم الحقول النفطية في العراق، التي تذكر بعض الإحصاءات أنها تشكل نحو «80 بالمئة» من واردات العراق المالية النفطية، فضلاً عن خمسة موانئ تجارية نشطة «أم قصر، أبو فلوس، البصرة النفطي، المعقل، خور الزبير»، ومنفذين حدوديين بريين مع إيران والكويت، تَدر جميعها أموالاً ضخمة للموازنة العامة. ومع ذلك تعاني المحافظة إهمالاً حكومياً واضحاً وغريباً، حيث يعاني نصف سكانها الفقر، نتيجة البطالة وإيقاف التعيينات في معظم المؤسسات الحكومية منذ ثلاثة أعوام بسبب المواجهة العسكرية مع تنظيم داعش في العراق، وكذلك انعدام فرص العمل في الشركات النفطية الأجنبية رغم كثرة عددها في البصرة ومناطق الجنوب العراقي عموماً، لاستقدامها عمالاً أجانب. وما زاد على ذلك تردي خدمة التيار الكهربائي، حيث يحتاج العراق إلى 23 ألف ميغاوات لضمان عدم انقطاع التيار الكهربائي عن مدنه، على حين ينتج هو 15.7 ألف ميغاوات من الكهرباء. وقد تفاقمت أزمته مؤخراً عند قيام إيران بقطع خطوط الطاقة التي كانت تزود بها المحافظة على وجه الخصوص، والعراق عموماً في السادس من تموز الحالي، والبالغ حجمها 1200 ميغاوات، بسبب ارتفاع احتياجات إيران من الطاقة خلال شهر تموز الجاري، وفق تصريح وزير الطاقة الإيراني رضا أردكانيان، ومع ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة بشكل لا يطاق، ارتفعت أيضاً نسبة الملوحة في مياه شط العرب إلى مستوى غير مسبوق، بسبب الانخفاض الكبير في منسوب مياه نهرَي دجلة والفرات، ما تسبب في أزمات خانقة في توافر مياه الشرب العذبة، والمياه المعدة للاستخدامات العامة، الخالية من الملوحة.
كل تلك الأسباب وغيرها من سوء الخدمات العامة في الصحة والطرق والنظافة، وتفشي الفساد المالي والإداري في الدوائر الحكومية عامة، أدى إلى اندلاع الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية الغاضبة في محافظة البصرة في الـ8 من تموز الحالي، التي كانت في بداية الأمر عفوية ولم تتعد العشرات، إلا أنها سرعان ما امتدت إلى باقي المحافظات الوسطى والجنوبية مثل ميسان وذي قار والقادسية وبابل والنجف وكربلاء والمثنى وواسط، إضافة إلى العاصمة بغداد، لتماثل المعاناة فيها، على مدى أسبوعين، وليتراوح المحتجون فيها بين بضع مئات إلى بضعة آلاف في هذه المدينة أو تلك، قبل أن تخف تدريجياً، وتتجه نحو التهدئة بعد وساطات قادتها الحكومة مع شيوخ عشائر ورجال دين. فالتظاهرة «المليونية» التي جرت الدعوة إليها في الـ20 من الشهر الجاري، لم تكن أعداد المتظاهرين فيها كبيرة، قياساً بحجم الدعوات والتحشيد التي قامت بها تنسيقيات التظاهرات في المحافظات العراقية عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
إن سرعة الحوارات والمفاوضات التي جرت بين وجهاء تلك المحافظات والحكومة التي ساعدت في اتخاذ بعض الإجراءات الإسعافية وأثمرت كما يبدو عن نتائج أدت إلى احتواء الأزمة.
إن أبرز الدوافع والأسباب التي شكّلت محرّكاً لتظاهرات المحافظات العراقية، هي الكهرباء والماء بشكل أساس، حيث اعتاد العراقيون التظاهر كل صيف احتجاجاً على انقطاع الماء والكهرباء. فقد سبق أن شهدت المحافظات الوسطى والجنوبية بما فيها بغداد في الـ24 من تموز 2015 تظاهرات عنيفة، احتجاجاً على سوء خدمات الكهرباء. تكررت في الـ7 من آب 2015. كذلك شهدت بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية في الـ7 من تموز 2016، تظاهرات مماثلة قادها التيار الصدري، استمرت لغاية الـ9 منه. ثم عادت التظاهرات الاحتجاجية على سوء الخدمات العامة والفساد مرة أخرى برعاية التيار الصدري الجمعة 15 تموز 2017، والجمعة 21 من الشهر ذاته. إلا أن التظاهرات والاحتجاجات الأخيرة كانت أكثر دموية وعنفاً من سابقاتها، إذ إن عدد القتلى منذ انطلاق التظاهرات لغاية الـ22 من تموز الجاري في وسط وجنوب العراق بلغ 13 متظاهراً، إضافة إلى أن عدد الجرحى بلغ 729 بينهم 460 من القوات الأمنية و269 جريحاً من المتظاهرين، كما اعتقلت القوات الأمنية 757 متظاهراً أطلق سراح أغلبهم خلال اليومين الماضيين، إضافة إلى تعرض 91 مبنىً حكومياً وسكنياً وسيارات إلى الأضرار نتيجة لذلك.
إن العامل المشترك في التظاهرات والاحتجاجات، هو شهر تموز، شهر الـ«جحيم» الذي لا يُطاق كما اعتاد العراقيون تسميته، الشهر الذي شهد ثورة 14 تموز 1958 التي أطاحت بالمملكة العراقية الهاشمية التي أسسها الملك فيصل الأول تحت الرعاية البريطانية، وهو الشهر ذاته الذي شهد أيضاً الانقلاب الذي أطاح بنظام حكم الرئيس عبد الرحمن عارف، بقيادة أحمد حسن البكر، ونائبه صدام حسين في الـ17 من تموز 1968.
إن الاحتجاجات، وعلى الرغم من أن شعاراتها ركزت على النواحي المعيشية المطلبية، إلا أن قيام بعض المتظاهرين برفع شعارات المطالبة بإلغاء العملية السياسية برمتها، وإلغاء الدستور، والتحول من نظام برلماني إلى نظام رئاسي! والأخرى المعادية إلى إيران، بدت خارجه عن السياق بشكل فظ، إضافة إلى أن قيام بعض المتظاهرين باقتحام مقارّ حكومية خدمية وحزبية وإحراقها، إضافة إلى تعطيل مرافق حيوية كمطار النجف، وعرقلة سيارات الإطفاء عن أداء واجبها، دعم ادعاءات الجهات الرسمية الأمنية بوجود «مندسين» لخلق الفوضى والانفلات الأمني في المحافظات الوسطى والجنوبية على وجه الخصوص، وبأن هناك تغلغلاً سياسياً حزبياً لتحريكها بهذا الاتجاه أو ذاك.
وما يلفت النظر أن مقار الأحزاب التي طالها الحرق، هي من المنضوية في قوات الحشد الشعبي التي قاتلت تنظيم داعش، ما يمكن أن يدعم «شبهة التدخل الخارجي»، ما استدعى قيام رئيس الوزراء حيدر العبادي بزيارة مقر هيئة الحشد الشعبي في بغداد في الـ16 من تموز الحالي.
إن الولايات المتحدة الأميركية التي أعلنت دعمها لـ«التظاهرات السلمية التي تشهدها بعض المحافظات العراقية»، وعن «تفهمها لحاجات العراقيين»، بحسب تصريح الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية هيذر نويرت في الـ19 من تموز الحالي، وجدت في هذه التظاهرات المطلبية، فرصة سانحةً للدفع بالنشطاء المتخرجين من منظماتها المنتشرين في عموم المناطق العراقية إلى الميدان، بهدف تصدير شعاراتهم الخاصة، لتتداخل الهتافات المطالبة بالخدمات والإصلاح مع الهتافات السياسية الخارجة عن السياق العام، فالولايات المتحدة الأميركية لا تجد ضيراً في تغذية أي تحرك ترى أنه من الممكن أن يضيق على الحضور الإيراني في العراق، وخاصة بعد أن نجحت الكيانات السياسية الشيعية الفائزة في الانتخابات النيابية الأخيرة: سائرون والفتح والنصر وتيار الحكمة، في الإعلان الشهر الماضي، عن تحالفها معاً، لتشكيل الكتلة الكبرى القادرة على تسمية رئيس الوزراء المقبل، ما خيب الآمال الأميركية والخليجية المراهنة على عكس ذلك.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن