بلقاسم العربي
| حسن م. يوسف
سَحَرهُ التاريخ منذ سنوات دراسته الأولى في أم الصمعة بولاية قبِلِّي في الجنوب التونسي، فأدرك ذلك الفتى الأسمر باكراً بأن التاريخ هو الشغف الأكثر سيطرة عليه وتجذراً في نفسه، فراح يقرأ ويقرأ، وكلما قرأ أكثر ازداد شغفه بالتاريخ اتقاداً وبات صارخاً في الإعلان عن نفسه حيث إنه كان يحفظ كل الوقائع والسير المهمة في التاريخ العربي عن ظهر قلب، فطارت شهرته بين أقرانه، حتى إن أستاذه في السنة الأولى ثانوي أطلق عليه لقب الطبري.
قبيل حصوله على الشهادة الثانوية قال له أستاذ التاريخ إنه إذا ما أراد أن يتبع شغفه، فعليه التوجه إلى دمشق لدراسة التاريخ في جامعتها. وذات صباح من كانون الأول عام 1971 انطلق الشاب بلقاسم حسن، الذي لم يكن قد أكمل عامه العشرين بعد، من موطنه تونس متجهاً نحو مشرق الشمس. سافر إلى ليبيا براً، ومن هناك، حجز بطاقة طائرة إلى دمشق، على الخطوط الجوية السورية. صادف أن جلس بلقاسم في الطائرة إلى جانب رجل كبير في السن من تل منين، كان قد جاء إلى ليبيا لزيارة ولديه اللذين يعملان هناك وهو عائد معهما إلى الوطن.
من دون مقدمات سأل الرجل بلقاسم من يكون ولماذا هو مسافر إلى دمشق؟ ولما علم منه أنه ما من أحد ينتظره في المطار، اقترح عليه أن يرافقهم في سيارتهم لأن الطائرة لن تصل إلا بعد منتصف الليل. ولما كان بلقاسم لا يعرف شيئاً عن دمشق وطرقاتها فقد وجد نفسه في تل منين. قال له الرجل اليوم تأخر الوقت، لذا ستبات هنا والصباح رباح، في صبيحة اليوم التالي أفطر بلقاسم مع العائلة واستقبل الزوار مع الرجل وابنيه، ولما انتصف النهار أعرب بلقاسم عن رغبته في النزول إلى الجامعة فقال له الرجل: اليوم جمعة والدوائر مغلقة، وهكذا أمضى بلقاسم يومه الثاني في بيت الرجل كما لو أنه واحد من أبنائه، وقد سحر بلقاسم الرجل وأبناءه بمعارفه الواسعة وبقدرته على سرد نوادر وحكايات التاريخ العربي بأسلوب شائق جذاب، لذا عندما أعلن بلقاسم عن نية المغادرة صبيحة اليوم الثالث، أفحمه الرجل بقوله إن ضيافة العرب ثلاثة أيام.
كان بلقاسم قد أخذ معه عناوين بعض الطلاب التونسيين في دمشق كي يساعدوه في بداية حياته هناك، إلاَّ أن الرجل لم يسمح له أن يأخذ حقيبته، بل أمر أحد أبنائه بمرافقته وطلب منه أن يراقب كيفية استقبال أولئك الطلبة له. ولما علم الرجل من ابنه أن الطلبة التونسيين لم يهتموا كثيراً لأمر بلقاسم، أصر على بقائه في بيت العائلة، ولم يسمح له بالمغادرة إلا بعد ثلاثة أشهر ونصف الشهر!
درس بلقاسم حسن التاريخ في جامعة دمشق، ما زاد من ترسيخ هويته العربية، وشارك بقوة في النشاط الطلابي التونسي والمغاربي في دمشق والتحم مع القضية الفلسطينية. وفي السنة الأخيرة من دراسته تزوج بلقاسم حسن من مهندسة سورية أنجبت له أربعة أبناء ناجحين، وقد ارتقى بلقاسم في المناصب، عقب عودته إلى تونس، حتى أصبح متفقداً عاماً للتربية ونائب رئيس هيئة متفقدي التعليم الثانوي – المتفقد هو المفتش العام- ومدقق الجودة بالنظام التربوي التونسي.
ونظراً لأن بلقاسم يعتبر السفر مطالعة ثانية فقد جاب العالم في كل الجهات لكن حنينه لدمشق لم ينقطع يوماً لدرجة أنه يعتبرها جنة قلبه، وعندما بدأت الحرب المجرمة على سورية لم يخف موقفه المؤيد للدولة السورية وإيمانه العميق بانتصارها.
بلقاسم حسن، نِعْمَ الصهر العربي لسورية أنت.