الفكر أخطر من السلاح
| إسماعيل مروة
يحسن بنا أن نقف عند أخطائنا في نهايات مراحل الحرب على سورية، ويحسن بنا أكثر أن نعطي المفاصل الخطرة المؤسسة للمراحل المقبلة، وأن نعطيها الأهمية اللازمة، ولا أغالي عندما أقول: إن أخطر ما يمكن أن يؤثر سلباً أو إيجاباً في مستقبل الوطن هو التربية والتعليم، وبصورة خاصة في الجانب التدريسي، فعلاوة على انتشار المعاهد الشرعية والثانويات الشرعية للجنسين على مستوى القطر، وفي كل مدينة وبلدة، وعلاوة على وجود معاهد تحفيظ القرآن في كل زاوية من زوايا سورية، وهما أمران فيهما من الإيجاب ما فيهما، وفيهما من السلب أضعاف الإيجاب، علاوة على ذلك هناك أمور ضمن التعليم العام على مستوى التربية، وأمور أكثر خطورة على مستوى التعليم العالي.. يفهم أحدنا أن تقوم وزارة الأوقاف بمد هيمنتها ودعم التعليم الشرعي، وسورية قبل عقود هي من سادة التعليم الشرعي الذي يخرّج المرشدين، لكنها اليوم تعجّ بالتعليم الشرعي الذي يغير في بنية المجتمع، وهنا أتحدث عن التعليم الإسلامي، أما المسيحي فلست على دراية عميقة بما يتم تقديمه ضمن المؤسسات ذات التبعية الكنسية.. أفهم رغبة رجال الدين في التمدد بمصالحهم، ومحاولاتهم أسلمة المجتمع، وقد نجحوا إلى درجة كبيرة، لكنني لا أفهم على الإطلاق أن تكون هناك ممارسات ضمن المؤسسات التربوية كالتخويف من الله، ودفع الطلبة إلى اختيار الجانب الشرعي دفعاً، وحتى هذا الجانب تصلني منه شذرات، أما الجانب الذي ألمسه كل لحظة، وكل يوم فهو ما أجده في جامعة دمشق.. الدين حرية، وبإمكان أي شخص أن يمارس حياته الدينية بشكل فردي، أما في الحياة العامة فأمر مختلف، ولننظر، فمنذ بداية الحرب على سورية هناك إجراءات أمنية احترازية، وهي مطلوبة ومرغوبة وضرورة، ومن الواجب أن يحافظ على حياة الطلاب والأساتذة وسلامتهم، ومن الطبيعي، حتى في غير الحرب، أن يتم تفتيش السيارات الخاصة بالإداريين والمدرسين، ولكن ما الفائدة من كل ذلك مهما بلغ، وأنت ترى في الجامعة عدداً كبيراً من النقابات؟ الاحتشام والحجاب أسلوب حياة، لست ضده، بل إن أسرتي تمارس هذا الطقس، ولا أعارضه، لكنني لست مع النقاب والخمار في المؤسسات العامة والجامعات، ولا بأي شكل من الأشكال، ولا لأي سبب من الأسباب فالأستاذ أو الأستاذة لا يعرف الوجه الذي يحاوره، وتزداد الخطورة في الامتحانات، وأزعم أنه من الصعوبة التأكد من شخصية الطالبة! وأذكر، وقبل الحرب أن الإعلام عرض مجموعة من القضايا والجرائم والمخاطر التي تمّ ارتكابها تحت ذريعة النقاب والخمار وفي المدن المختلفة والقرى! الاحتشام والحجاب عقيدة وأسلوب حياة وحق للإنسان، لكن في العمل الوظيفي لا يجوز أن تكون الموظفة في دائرة ما بهذا الشكل، لأنه إن حدث أي تجاوز أو تعد فإن هوية الآخر غير معروفة! وفي التعليم الجامعي الأمر أكثر خطورة، وفوق المخاطر الأمنية والعلمية هناك مخاطر فكرية مستقبلية، وأذكر حادثة واحدة من حوادث عديدة جرت معي وأنا أمارس التدريس الجامعي، ولم تمر في دولة كنت أقوم بالتدريس فيها من دول الخليج، فبعد ثلاث محاضرات عن المسرح وأهم كتابه من اليونان إلى الإغريق، إلى الحديث، إلى المسرح العربي، كنص مكتوب، وبعد أن تصبب مني العرق بوزن الورق ترفع طالبة يدها، ولا أرى وجهها لتقول: لكن المسرح حرام! وأنا أمام نقاش أجهل تعابير وجه الشخص، بذلت جهداً كبيراً لأقول نحن ندرس المسرح نصاً أدبياً وتاريخاً، ولا نتحدث عنه كفن تمثيلي، هذا مع قناعتي بأن غياب المسرح من حياتنا وراء كثير من المشكلات الفكرية والسياسية، بل أيضاً الحرب التي تجري على أرضنا، المهم حاولت الكثير، والطالبة تماحك وتناقش، ولا أعرف إن كانت تناقش جدياً أو كيدياً، أو أي شيء، ولست أدري ماذا يمكن أن تفعل هذه الطالبة فيما بعد! وعندما درستهم السيرة الذاتية سمعت اعتراضات أيضاً، ولا أعلم! إن كانت الطالبة هي نفسها أم غيرها، لأن عدد المنقبات المختمرات أكثر من طالبة، أعود وأقول: أنا لست ضد الحرية الشخصية، لكن المؤسسات العلمية والتعليمية لها خصوصية، فتخيل معي أن هذه الشريحة ستدخل التدريس وتمارس التدريس وفق هذه الرؤية، فإذا كان المسرح حراماً، والسيرة الذاتية تجاوزاً، والرواية مفسدة، وما إلى ذلك، فأي علم سيحمله أبناؤنا وأحفادنا مستقبلاً؟!
ذكرني هذا بأحد الشباب المشايخ الذين تكرمت علينا بهم معاهدنا الشرعية، عندما قال له أحدهم تفضل للطعام في مأدبة، استمر جوابه وقتاً، وهو يردد: جعل الله الملائكة يسحبون لك الكرسي لتجلس في جنة عرضها السموات والأرض! هذه هي الحياة التي أرادوها، وهذه الحياة التي يريدون أن يعلمونا إياها، وهذه ثقافتنا المستقبلية.
أقول للمعنيين: إن المعاهد الشرعية خرّجت لنا آلاف الطلاب الذين يحملون بضاعة قليلة من العلم الديني، وهؤلاء تركوا أثرهم ليس في مجتمعهم وحده، بل في شرائح أوسع، وهذا ما شكل خطورة في عملية فرض طرائق حياة فئة من الناس على المجتمع بتمامه، بل إن عدداً من الذين درسوا في التعليم المدني وبتخصصات ليست دينية، ونظراً لغياب فرص العمل، فإنهم أكملوا في التعليم الشرعي، وانتهجوا الحياة الدينية التي تناسب مجتمعاتهم، وهذا أمر حسن، ووزارة الأوقاف تعرف عدد الأطباء والمهندسين والمحامين ومدرسي العربية الذين كانوا وما يزالون على المنابر في مختلف أنحاء سورية، ولكن بدل أن يعمل هؤلاء على تنوير المنبر، فقد خرجوا من عملهم الدنيوي الراقي، وتخلوا عن علمهم إكراماً لثقافة مجتمعية قد لا تكون سليمة دوماً..!
الحرية الدينية يجب أن تكون مكفولة.
والقضية الدينية أمر فردي للشخص بذاته، ولكن هذه السنوات أظهرت لنا فوق ما يمكن أن نتخيله، فلو تحدثت مع أحد هؤلاء المشايخ، فإنهم يتحدثون عن التطرف وينتقدونه، وهم هدف للمتطرفين، ولكن على الجميع ألا ينكر أن جزءاً من المجتمع هدف لهؤلاء المتنورين، وقد استطاعت الصراعات الفكرية أن تظهر لنا كماً من التناقض الغريب، فأحدهم وهو لا يقبل أن يسمع شيئاً، ولا يقبل حواراً، ولا يقبل مختلفاً معه، إن كنت تحاوره، فإنه يذكر لك خصمه الفكري ضمن الفكر الديني ليقول لك: هذا سلفي!! وماذا أنت يا صديقي إن كان ذاك سلفياً؟!
منذ أيام كان افتتاح فعالية علمية في جامعة دمشق، كلية الآداب، حضرها السادة المشرفون على التعليم العالي، دخلوا وأقفلوا طرقات، قاموا بفعاليتهم وغادروا بحفظ الله وصيانته، ولكن واحداً منهم لم يقف عند هذه الظواهر، وضمن الامتحانات! هل أقول المزيد على المعنيين أن يخرجوا بآرائهم الدقيقة، فالوطن بحاجة للتخلص من الإرهاب والتطرف، وهذا الأمر لا يقتصر على الجماعات المسلحة، فهؤلاء من السهل التخلص منهم، لكن الإرهاب الحقيقي في الفكر، الفكر الذي يتم زرعه برعاية مسؤولين، والفكر الوضعي الذي يتحكم بالناس ومصائرهم، والفكر المسؤول المريض الذي لا يرى غير رأيه!
وأزعم أن هؤلاء هم أكثر خطورة من أي جماعة مسلحة، فوزير فاسد، أو مسؤول حاقد، أو شيخ على منبر أخطر بكثير من كل الجماعات المسلحة التي مرت في أرضنا وهي في طريقها للزوال.