ثقافة وفن

ذهب الإذاعة والتلفزيون العتيق يحكي رحلته لـ «الوطن» … محمد قطان لـ«الوطن»: دربني الأمير يحيى الشهابي ستة أشهر قبل أن يقدمني للمايكريفون

| سارة سلامة

محمد قطان كنز التلفزيون السوري الثمين كان ومازال إلى اليوم باقياً، فهو نجم شاشة الستينيات والسبعينيات التي استطاعت بلونيها الأبيض والأسود توثيق أهم المجريات، ولم يكن لشغفه وحبه حدود حيث واظب منذ صغر سنه على متابعة الإذاعة من كثب وأحب وعشق هواها وتابع بدقة ولاحظ بشغف ما يبث في الإذاعات وجرب وكتب وتعب إلى أن وصل وقدم وأعد وأخرج وعمل فيها سنوات طوالاً، وفي المرحلة الابتدائية كان يسكن مع عائلته المؤلفة من خمسة شبان وابنتين في حيّ دمشقي يدعى «سيدي عامود» والآن معروف باسم «الحريقة»، عاش في كنف بيته الصغير الذي كان قريباً من المكتبة الظاهرية، إلى أن دفعه شغفه بزيارة المكتبة وأصبح يسكن فيها ساعات، ودرس في مدرسة التجهيز الأولى التي ضمت أفضل المدرسين ومن أساتذته في اللغة العربية كان كل من جميل سلطان وعبد الهادي هاشم، وعندما ضُرب البرلمان هرع والده مسرعاً يبحث عنه مطمئنا وعندما عجز من إيجاده أخبرته أمه بأن محمد لا بد أن يكون في المكتبة الظاهرية وبالفعل وجده هناك يقرأ ولم يكترث لكل ما يجري خارجاً.
ليعيش بعدها في الإذاعة حيث كان جندياً حقيقياً في ساحة لا تقل أهميتها عن ساحة المعركة، وكان من المؤسسين للتلفزيون العربي السوري وشهد الولادة والنشأة وعاصر البدايات، ومر عبر محطات متعددة وعايش الوحدة بين سورية ومصر، وحرب تشرين التحريرية وغيرها الكثير من الأحداث المهمة، إضافة إلى ذلك علّم ودرّس الإعلام في الجامعة وكان أباً وأخاً لطلاب كثيرين استفادوا من تجربته. اليوم يحل ضيفاً على جريدة «الوطن» التي خصها بحوار يضيء فيه على جانب من حياته وبدايته وأبرز برامجه وأجمل المحطات والذكريات وكان هذا الحديث..

البدايات

يروي محمد قطان نثرات عن بداية دخوله عالم الإعلام والإذاعة والصعاب التي رافقته ويقول: «كنا في المدرسة معتادين تقديم شيء يشبه لوحة الحائط، إلا أنني قدمت نشرة اسميتها «صيحة الحق»، وأول عدد صدر عام 1955 عندما كنت كشافاً وكتبت مقالاً عن الكشفية وأهميتها، إلى أن تعرفت على أستاذي في مدرسة التجهيز الأولى عبد الكريم الكرمي».
وكان قطان في مرحلة يجذبه ما يقدم عبر الإذاعة وتدهشه تلك البرامج فحاول أن يبتكر جاهداً برنامجاً خاصاً به من دون أن يقلد ويتابع قطان: «كنت أراقب في إذاعة القاهرة برنامجاً للأطفال يقدمه مذيع يدعى «بابا شارو»، وتعلمت منه الكثير وهذا ما دفعني لكتابة برنامج وتعبت به جداً ولكني لم أنقل بل استوحيت، وقدمته للأستاذ عبد الكريم ليقرأه ولكني فوجئت عندما أعاده لي لسبب غير مفهوم وقال عندما تكبر ستكتب غير ذلك معللاً بأن الكتابة والأسلوب ليسا من تأليفي».
وكان قطان بحاجة ملحة لإثبات صدق قلمه وصفاء ذهنه وسعة خياله فظل يحاول مراراً وكتب برنامجين مغايرين ولم يهدأ إلى أن توصل لموجه في المدرسة وطلب منه المساعدة في إقناع الأستاذ بقراءة البرامج وما حدث أنه: «بعد شهر من ذلك وبينما كنت جالساً في الصف قال لي الموجه بأن الأستاذ يريد رؤيتك وذهبت إليه مسرعاً فقال لي إذا كانت تلك كتابتك فسأطلب منك أن تعدني بأن تبقى تسير على هذا الخط وألا تخذلني أبداً، ووعدته بذلك وبارك لي بالبرنامج، وكنت حينها في المرحلة الثانوية حيث أعددت وأخرجت البرنامج واستعنت بصديق موسيقي اسمه أحمد أصيل ليضع الموسيقا».
وبقي كذلك حتى رآه المذيع عبد الهادي البكار الذي أعجب ببرنامجه وأبلغه في الوقت نفسه إعجاب الأمير يحيى الشهابي به وطلب مني أن يأتي بطلاب لديهم مواهب في الشعر والأدب وبالفعل عمل معه، وبعدها التقى بفؤاد شحادة الذي كان يقدم برنامج «مجلة الإذاعة» وعمل في البرنامجين، وتابع قطان: «بينما كنت أعد للبرنامج أتى الآذن وأخبرني أن مدير البرامج يحيى الشهابي يريد مقابلتك وبالفعل ذهبت وأنا مرتجف وحينما بادرته السلام قال لي أهلاً أستاذ وفوجئت بهذه الكلمة وخاصة أنني ما زلت طالباً وأخبرني أنه سيجعل مني مذيعاً لأن أدائي جميل ولغتي سليمة، وكنت حينها طالباً في الثانوية وقام بتدريبي وحيداً 6 أشهر وطلب بعدها أن أقدم برنامجاً موجهاً إلى أميركا الجنوبية يبث في الساعة 2 ليلاً وينتهي 4 صباحاً».

جدتي بالملاءة تقابل يحيى الشهابي

وكان هذا الخيار صعباً ويقع بين الحلم الذي راود الخيال وبين واقع المعيشة القديمة آنذاك أي على الرغم من فرحته إلا أنه خاف من غضب والده وهو شيخ وصاحب دين ولا يقبل أن يعمل ابنه في الإذاعة، وكثيراً ما تحايل عند وجود والده يوم الجمعة في المنزل وأخفى صوت المذياع لأن في برنامج الأطفال يذكر اسمه في الإعداد والإخراج.
وبعد جلسة تفكير طويلة لم يجد من يقف إلى جانبه ويسانده سوى جدته التي تتمتع بجرأة كبيرة وكانوا يسمونها باللغة العامية «أخت رجال» وهي ترتدي الملاءة ومغطاة بأكملها وقام بإخبارها بالموضوع وما حدث: «إنها في البداية لم تصدق وقالت إن كنت صادقاً فخذني إلى يحيى الشهابي وبالفعل ذهبنا إليه وقالت له سيدي إن محمد تربى على أيدينا تربية قديمة، ونظر إليها الشهابي وقال فهمت ما ترمين إليه من لباسك، ولم تهدأ جدتي حتى أخبرته أنها تريد أن تأتي معي مرة أو مرتين لتتأكد بنفسها من جدية ما يحدث، ولم يمانع الشهابي بل رحب بها وفعلاً قدمت معي مرتين أو أكثر وكانت سعيدة وفخورة بي جداً، وأصبح لدي راتب من دون أن أكون موظفاً وفق نظام «البونات»، وكان كل ذلك من دون علم أبي وداومت جدتي على فتح الباب لي وإغلاقه ورائي بهدوء».

في الجامعة

وبعدها انتقل إلى المرحلة الجامعية ودرس الأدب العربي إضافة إلى عمله في البرنامج، وعندما هيؤوا كوادر التلفزيون في العام1958 قدم على مسابقة هو والكثير من رفاقه مثل خلدون المالح ومروان شاهين واسماعيل حبش وحنان كنعان، والمفارقة كانت عندما نجح الجميع باستثنائه وذلك لأسباب قد تكون سياسية، وتابع عمله من غير أن يكون موظفاً، وعن مجريات ما حدث قال قطان: «عندما حدث الانفصال طلب مني الشهابي أن أعود وأقدم مجدداً على مسابقة كانت في عام 1962، ونجحنا وفرزنا أربعة ومنهم مهران يوسف وأحمد زين العابدين وغيرهم، وعند تسلم الشهابي مديراً عاماً للإذاعة والتلفزيون كلفني برئاسة شعبة المذيعين ومسؤولاً عن الفترة اليومية إضافة إلى رئيس التنفيذ أي الفترة التي يفتح فيها التلفزيون السادسة مساء وعند إغلاقه في الساعة الحادية عشرة ليلاً، وبقيت هكذا منذ العام 1959 إلى العام 1970، إلى أن أتى مدير يدعى عطية الجودة وأخذ كل برامجي وكنت وقتها في السنة الثالثة بالجامعة، فقدمت على إجازة مدة شهر وذلك لأكمل دراستي حيث كنت في تأجيل مدة 9 سنوات من أجل الإعلام، ووصل طلب الإجازة إلى مدير برامج ومخرج عراقي اسمه فيصل الياسري، الذي فوجئ بالكتاب وذهب به إلى المدير العام متجاوزاً مدير التلفزيون، وقال له قبلت إجازته ولكن أتمنى عليك أن تأتي بغيره لأنه يعمل في هذه المهمة منذ ما يقارب 8 سنوات وهو عاشق لعمله نجده قبل ساعة من افتتاح المحطة يهيئ المخرجين وعندما تغلق في الساعة 11 ليلاً يبقى للساعة الواحدة يراقب كل شيء ويهتم بالنشرات وحتى إذا غاب مذيع يكون مكانه لذلك أتساءل من أين ستأتي بمثله؟!».

التجربة المسرحية

عندما تخرج قطان في المدرسة أسس فرقة مسرحية هو ومجموعة من الطلاب ومثلوا على مسرح المدرسة، وكانت المسرحية باسم «وامعتصماه»، ويقول عن تلك المرحلة: «شكلنا فرقة فنية خارج المدرسة مع عادل خياطة وعبد الرحمن آل رشي وعدة أسماء أخرى باسم «عبد الوهاب أبو السعود»، نسبة إلى هذا الفنان التشكيلي المشهور، وكان مركزها قريباً من التجهيز الأولى، ونقلنا هذه الفرقة إلى ناد سميناه «النادي الشرقي» وكانت أولى نتائجه مسرحية تم إخراجها بين عادل خياطة ونهاد قلعي باسم «ثمن الحرية»، في دمشق وبعدها في القاهرة ومثلت معهم في دمشق ولكنني لم أستطع السفر معهم إلى القاهرة كي لا يعلم والدي أنني أمثل، وتابع قطان: إنه «عندما استلم نهاد قلعي المسرح القومي أخبرني بأنه يرغب في انضمامي إلى المسرح وبأنه سيعطيني دوراً بطولياً، وكان جوابي من دون تأن الرفض وذلك لأن والدي لن يقبل في أن أكون ممثلاً على المسرح إضافة إلى أنه ليست لدي رغبة فعلية بذلك».

في حلب

وفي عام 1970 أصبح قطان مديراً للتلفزيون ومديراً للبرامج، وبنهاية السبعينيات كلفوه إدارة إذاعة حلب حيث لم تكن كاميرات وفي ذلك الوقت ضربت إذاعة دمشق، وعملوا إذاعة احتياطية في المالكي ووضعوا كاميرتين خوفاً من أن تضرب المالكي، وتصبح سورية بلا تلفزيون وبلا إذاعة، وطُلب منه أن يذهب بسيارة النقل إلى حلب حيث قال: «ذهبت برفقة فؤاد شحادة وزوجه وأولاده حيث كان بيته قريباً من قصف حيّ أبو رمانة وذلك في حرب 1973، وعند اتخاذنا الطريق الدولي عند النبك رأينا أربع طائرات إسرائيلية متجهة إلى حلب ولاحظنا أن الطائرات غيرت مسارها وأصبحت باتجاهنا وطلبت حينها من السائق أن يوقف السيارة وهربنا واختبأنا على جانبي الطريق، وفيما يبدو أن الطائرات كانت قد ضربت المعسكر في منطقة النبك، وإثر ذلك ارتفع السكر عند فؤاد شحادة إلى 600 وتوفي، وبقيت في حلب ما يقارب السنتين أو الثلاث سنوات، عدت بعدها إلى دمشق حيث كانت التفجيرات في قلب حيّ الميدان في أوائل الثمانينيات، وكحزبي قديم شغلت مكان أمين شعبة حزب الميدان لأنهم يحتاجون إلى شخص من أهل المدينة ويعرف الأحياء، وفي عام 1985 قُلب الحزب وأصبح تنظيم وزارات وإدارات وليس أحياء وشكلوا أكبر شعبة حزب في سورية وسموها شعبة «الموظفين المركزية»، وتضم فرقاً من القصر الجمهوري ومجلس الوزراء ومجلس الشعب والخارجية والداخلية والإعلام وتتألف من 20 فرقة، وأصر الدكتور زهير مشارقة والدكتور سليمان قداح على أن استلم أمين الشعبة حيث بقيت فيها 8 سنوات، وقمت بتأسيسها وجمعنا الفرق من الشِعب، وكانت الشعبة المركزية ولا تزال إلى اليوم في منطقة المزة، وفي ذلك الوقت أصبحت أستاذاً في الجامعة حيث أصدر السيد الرئيس في عام 1983 مرسوماً بتدريس اللغة العربية لغير المختصين وكنت قد أنهيت إجازتي ورغبت في الحصول على دكتوراه ودرّست اللغة العربية، واستقررت في قسم الصحافة والإعلام بكلية الآداب الذي كانت تترأسه الدكتورة فريال مهنا وبقيت فيه ما يقارب15 سنة وبعدها سُلمت المؤسسة العربية للإعلان وبقيت فيها 6 سنوات».

أبرز البرامج

وعن أبرز البرامج التي قدمها يقول قطان: «عملت برنامج «الهواة» وكان أول برنامج للهواة في الوطن العربي واللجنة كانت مؤلفة من سهيل عرفة وعبد الفتاح سكر وابراهيم جودت وكان قائد الأوركسترا صبحي جارور، أما أبرز المطربين الذين انبثقوا عنه فهو الفنان صفوان بهلوان وآخرون، وبرنامج آخر باسم «الباب المفتوح» وكان يبث لساعتين على الهواء وهو برنامج ثقافي فكري منوع ويتخلل الكثير من الأغاني الجميلة وكنت أذهب إلى القاهرة وآتي بآخر ما غنته نجاة الصغيرة وفايزة أحمد وغيرهما، وبرنامج بعنوان «أعرف مهنتي» حيث كنت آت بحداد مثلاً ليحكي عن مهنته ويحزرها الناس، وكنت أذهب مع الكادر كل عام لمدة 15 يوماً إلى حلب لأغطي فعاليات سوق الإنتاج الزراعي والصناعي ومهرجان القطن الذي يتضمن كرنفالات وأزياء عبر برنامج اسمه «التلفزيون في زيارة»، وبرنامج باسم «الحل الصحيح» وبعدها تم تغيير اسمه إلى «أوائل الطلبة» الذي يتضمن فريقين واحداً بنات والآخر بنين والأسئلة كانت من كتب البكالوريا، وشاركت ببرنامج «مجلة التلفزيون» في عام 1962 وهو برنامج منوع وثقافي وكنت وحيداً كرجل ومعي 3 مذيعات على مدى تسع سنوات».

أبرز النهفات

في رحلته هذه كثيراً ما تعرض لمواقف طريفة أخبرنا عن بعضها وقال: «في أيامنا لم يكن المذيع يقرأ الخبر فقط بل كان هو من يحرره، وهذه مسألة مهمة وأذكر مرة وعند قراءتي خبراً للرئيس في نشرة الأخبار أقول فيها: «وكان سيادته انتقل إلى.. »، وبعدها طارت الورقة وهنا لم نكن باستطاعتنا التحدث مع المخرج في السماعة بل كان هناك مدير استديو يقف وراء الكاميرا ويخبرنا بالوقت المتبقي وكانت هناك دقة كبيرة بألا يظهر أحد على التلفزيون ولو أني انتظرته ليأتي لي بالورقة سأحتاج إلى دقيقتين وذلك لا يسمح به الهوا وأذكر أنني قرأت نصف الخبر من ذاكرتي لأنني كنت قد حررته وبعدها أعطاني مدير الاستديو الورقة فأعدت قراءة الخبر من أوله وكررت: آسف سأعيد عليكم الخبر».
وعند عمله كمراسل حربي في حرب تشرين حيث كان يذهب برفقة مهران إلى القنيطرة ويعمل مقابلات متعددة، انتشرت إشاعة مفادها إنني استشهدت وعندما ذهبت إلى حلب لأؤسس الإذاعة الاحتياطية لم أظهر على التلفاز مدة من الزمن لذلك ترسخت الإشاعة وكنت أقود سيارة خاصة بالتلفزيون في مدينة حلب إلى أن تعطلت وأنا في الطريق فأخذت سيارة أجرة وإذا بسائق السيارة ينظر إليّ باستغراب وقال (أيه اللـه يرحمك يا محمد قطان)، ربما شبهني له فقلت له هذه هويتي وخبر موتي ما هو إلا إشاعة، فما كان منه إلا أن أوقف السيارة وأنزلني بأسلوب غير لطيف وقال: احتفظ بنقودك ولا تقم بانتحال الشخصيات المهمة ولأنني لا أريد منك نقوداً إلا أني أفضل أن تقرأ لمحمد قطان الفاتحة».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن