قضايا وآراء

ترامب يهدّم التحالفات الغربية.. ويمهّد لظهور نظام عالمي جديد

| د. قحطان السيوفي

يعتبر لقاء هلسنكي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب قمة مفصلية في تاريخ العلاقات الدولية، لأن نتائجها، عززت موقع روسيا في المنظومة العالمية وستفكك بعض التحالفات العالمية وتغير موازين قوى وهيكل النظام العالمي.
قد يكون من المفيد التذكير بالمحطات الرئيسة التي مر بها النظام العالمي بدءاً من عصبة الأمم واندلاع الحرب العالمية الثانية التي مهّدت لتحالفات دولية أسست الأمم المتحدة وظهور معسكرين غربي رأسمالي والآخر شرقي اشتراكي. استمر 40 عاماً، حتى انهار الاتحاد السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي. تصور المعسكر الغربي انتصار أيديولوجيته الليبرالية واقتصادات السوق… عملياً الولايات المتحدة عجزت عن فرض أيديولوجيتها وإرادتها على النظام العالمي كله. وبنت الصين نموذجها الخاص في التنمية لتصبح قوة اقتصادية عظمى عملت روسيا لاستعادة قوتها عبر نموذجها السياسي والاجتماعي. المعسكر الغربي بدأ يعاني بدوره مظاهر تفكك بطيء، وتصاعد التيارات اليمينية المحافظة، خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ووصل ترامب إلى البيت الأبيض لتبرز ظاهرة الترامبية كظاهرة أميركية محلية عبر شعار أميركا أولاً، وانعكاساتها على النظام الدولي، وخوض ترامب صداماً علنياً مع حلفاء الولايات المتحدة وإعلانه عدم قدرته على حماية أمنهم، وتجاهل قضايا حقوق الإنسان العالمية في المشهد الدولي. تعكس تصرفات ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض درجة كبيرة من عدم الرضا عن النظام العالمي الحالي. فهو لا يؤمن بقيم وقواعد هذا النظام، ولا يثق في آلياته ومؤسساته ويسعى بشكل أو بآخر إلى هدمها كقراره بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ، وشكواه من قواعد منظمة التجارة العالمية، وحماسته للحمائية التجارية، وإشعاله فتيل حرب تجارية، إضافة للانسحاب من الـ«يونيسكو»، وعدم اقتناعه بجدوى الأمم المتحدة، وعدم ارتياحه للاتحاد الأوروبي والضغط على شركائه في الحلف الأطلسي وابتزازهم.
هذه المعطيات كانت حاضرة في ذهن الرئيس بوتين عند لقائه الرئيس ترامب في هلسنكي، وربما يكون بوتين استنتج وجود أرضية مشتركة للمصالح الأميركية والروسية، للتعاون وإيجاد تسويات لبعض الأزمات الدولية، وربما لإرساء أسس لنظام عالمي بملامح وأسس جديدة.
يتوقع، أن يواجه ترامب معضلتين كبيرتين في البحث عن النظام العالمي الجديد:
الأولى كيفية التعامل مع آليات العولمة في نظام دولي يقوم على أسس وطنية، سيحاول ترامب استغلالها وفق حسابات المصلحة الأميركية بما يتناسب ونظام عالمي متعدد الأقطاب.
الثانية علاقة الولايات المتحدة بإسرائيل، فإدارة ترامب ترى هذه العلاقة بمنظور عقائدي مُتصهين، وهو منظور تيار «المسيحية الصهيونية». مما سيدخل الولايات المتحدة في تعقيدات خطيرة مع شعوب ودول في العالم.
تضمنت نتائج قمة هلسنكي مؤشرات عدة على تعزيز الدور الروسي على الصعيد العالمي، من هذه المؤشرات، ما اعتبره بعض المحللين «انتصاراً سياسياً» لروسيا، بعد معارضة مختلف التيارات السياسية الأميركية للتقارب مع بوتين، وثناء ترامب على نظيره الروسي، وقيامه بنفي تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
من المؤشرات أيضاً، انفراد السياسة الروسية بإعادة صياغة العديد من ملفات القضايا العالمية، إضافة لدعوة بوتين ـ خلال المؤتمر الصحفي بهلسنكي ـ إلى تشكيل لجنة خبراء لتطبيع العلاقات بين موسكو وواشنطن لمواجهة التحديات العالمية المشتركة التي من بينها الإرهاب، ومشكلات الاقتصاد العالمي.
من المؤشرات كذلك إجماع خبراء العلاقات الدولية على أن عقد القمة يُعد بمنزلة اعتراف مباشر من واشنطن بروسيا كقطب عالمي منافس يجب إجراء حوار معه.
من المؤشرات، إشادة ترامب بلقائه مع بوتين، وأكد أنه كان أفضل من اجتماعه بقادة حلف الناتو ورئيسة وزراء بريطانيا «تيريزا ماي»، الأمر الذي فاقم الاستياء الأوروبي من الرئيس الأميركي وسياساته.
ويجمع خبراء الشأن الدولي أن هذه الخلافات الأميركية الأوروبية ستؤدي إلى تعزيز مكانة روسيا التي توجد في معظم مناطق نفوذ دول حلف الناتو، وتقوم بتوظيف صادراتها من الغاز للضغط على دول أوروبا تارة، وتعزيز علاقاتها معهم تارة أخرى، ولاسيما أن أوروبا لا تزال في حاجة للغاز الروسي.
لا شك أن قمة هلسنكي جاءت لتحقيق إستراتيجيات وطموحات سياسية معينة، من شأنها أن تغير موازين وهيكل قوى النظام العالمي، إن لم يكن عودة القطبية الثنائية من جديد، لخدمة النظام العالمي الجديد وفق نسب سياسية معينة يتم الاتفاق عليها في الأمد المنظور وعلى المدى الإستراتيجي الطويل وبما أن نتائج قمة هلسنكي، سوف تلقي بظلالها على مستقبل وموازين قوى وهيكل النظام الدولي، فإن ثمة وجهتي نظر في هذا الصدد، الأولى تنفي وجود تهديد روسي لمكانة واشنطن.
أما وجهة النظر الثانية، فتؤكد حقيقة وجود تهديد روسي واقعي لمكانة الولايات المتحدة، مما يحتم على واشنطن ضرورة التقارب مع موسكو لمواجهة التمدد الصيني الذي يمثل تهديدا اقتصادياً مباشراً لواشنطن، ولعل الحرب التجارية الحالية بين الدولتين دليل على ذلك.
فالرئيس ترامب لديه قناعات بأن الحرب التجارية التي يخوضها، مع الصين، ومع حلفاء أميركا ستؤدي إلى تطويع هذه القوى وخضوعها لشروطه، كرجل يدير العلاقات الأميركية الدولية بمنطق رجل الأعمال يُفضل استخدام سياسة الضغط بديلا للدبلوماسية. وعلى المستوى السياسي تعمد ترامب تفكيك الارتباط السياسي الروسي بكل من إيران وتركيا، الأولى من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي.. والثانية من خلال الاهتمام الأميركي بتقليص التفاهم الروسي- التركي في سورية، والتلويح بالانسحاب الأميركي، ما يسهم في تفعيل العامل الكردي هناك، عبر قوات سورية الديمقراطية.
أخيراً فإن التجاذبات والتنازع في الإرادات السياسية لكل من روسيا وأميركا وأيضاً الصين، تحقيقاً لمكاسب سياسية واقتصادية أو الحفاظ على إستراتيجيات مفتوحة تحسباً للمتغيرات العالمية الطارئة، أديا لتغير موازين القوى. كما تآكلت الركيزة الأيديولوجية للتحالف الغربي برمته، كل هذا يمهد الطريق للبحث عن قواعد وآليات لنظام عالمي جديد مختلف عن النظام الراهن ويؤكد التعددية القطبية.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن