اقتصاد

قرفصاء عند باب المندب

| علي محمود هاشم

حسنا فعلت السعودية بالكشف -قهريا- عن الأسباب الحقيقية لحربها على اليمن، فذهابها لاعتبار أن ما استهدفته القوات الشعبية اليمنية عند مضيق باب المندب هو ناقلة نفط «الدمام»، لا بارجة «الدمام»، هو «خرق للقوانين الدولية التي تنص على حرية حركة الملاحة في الممرات المائية الدولية» يعكس فحوى الحرب على جارتها الأقرب، ليس خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وإنما على مدى النصف الثاني من القرن الماضي.
منتصف الشهر الجاري، اتفق الرئيسان الروسي والأميركي في هلسنكي على تقاسم أسواق الطاقة حول العالم، يوم واحد فقط كان كافيا لتكسير أرجل الاتفاق بعصي المال والدبلوماسية في الغرب!
يجدر التساؤل بالفعل عن تلك الجهة التي تستطيع أن تمرّغ قرار رئيسي دولتين عظميين خلال هذه المدة القياسية، واستطرادا، الحيثية السعودية في هذه الاصطفافات وسعيها لمعاقبة أوروبا في أعضائها الطاقوية الحساسة، بعدما أقنعت الرئيس الأميركي بالهدوء إزاء تدفق الإمدادات الغازية الروسية غربا؟!.
في خلفيات القرفصاء السعودي على سفوح جبال «السروات» الممتدة من القلمون السوري إلى ميناء الحديدة جنوب الجزيرة العربية، وممارستها النحيب البدوي وفق المبدأ الشامي «ضربني وبكى»، إنما يعكس الهزيمة النكراء التي يمنى بها الحلم البريطاني باستمرار السيطرة على الممرات المائية العالمية.
باب المندب الذي يمرر 8% من تجارة النفط العالمي، هو المعبر الطبيعي العالمي الرابع من حيث القدرة على تمرير تجارة النفط العالمية، خلفا لـ«ملقا» الذي تخلخلت سيطرة حكومة التاج البريطاني عليه شرق آسيا بصعود الصين والحضور الأميركي المباشر هناك، وهرمز الذي انتزعت الثورة الإيرانية سواحله الشمالية من أيديها، ورأس الرجاء الصالح الذي يتمدد إليه فضاء «بريكس+» المتغلغل في القارة السوداء، يمثل خيار حياة أو موت لذلك التاج وتبرعماته النحاسية القائمة في المنطقة، وخاصة بعدما فشلت بالاستحواذ على تراب الصحراء السورية كبديل لمياه باب المندب، ولمياه هرمز وقناة السويس أيضاً.
رؤية البارجة الحربية كناقلة عملاقة تابعة لشركة «البحري» السعودية، لربما سراب سبّبته دموع التماسيح «المتلألئة» على خدي المملكة الوهابية بتاجها النحاسي، وهي مشهدية قسرية تعود جذورها إلى آذار 2015، وتحديدا ساعة إعلان مؤسسة «إسرائيل» الأمنية، التاج البريطاني النحاسي الآخر، مستبقة الحرب السعودية على اليمن بـ15 يوماً إبان استعادة القوات اليمنية ميناء الحديدة أن: «سواحل اليمن أصبحت سواحل دولة معادية».
النحيب السعودي المتجدد يعكس تجدد الهزيمة البشعة التي منيت بها بريطانيا على امتداد جبال «السروات» المستلقية على جانبي الفالق السوري الممتد من بلاد الشام وحتى بحر عدن، إلا أن جديده يتعلق بالقدرة على المناهضة السريعة لاتفاق هلسنكي من قبل نظام كالسعودية، قضى عاميه الأخيرين بتدبير الانطباع المناسب أمام الرئيس الروسي، والرئيس الأميركي وزوجته، وبالتفتيش عن آلية لإدراج شركة «آرامكو» في البورصات دون تسبب إفصاحاتها المطلوبة بافتضاح ماهية هذه الشركة «الأميركية/ السعودية».. هذا الواقع، يثير التساؤل بالفعل عمن يقف خلف السعودية في مناهضة قرار الرئيسين؟!.
ثمة ترابط عضوي بين مجريات اليوم التالي لقمة هلسنكي وصولا إلى الزوبعة السعودية حول نواقل النفط، وبين ما تخللهما من تجدد إقامة المتاريس ضد الغاز الروسي على تخوم دول أوروبا الشرقية.
تبدو بريطانيا كمن يقاوم المضي عميقا في الرمال المتحركة، فبالرغم من تجاوب مصالحها مع الإيحاء بالتهديد المحرّم لتجارة الطاقة العالمية عقب صمود القوات اليمنية في ميناء الحديدة، فإن اللعب في هذه المنطقة ذات الحساسية البالغة، سيدفع بقية أوروبا لمزيد من الإدمان على الغاز الروسي، لربما وقع الأمر الذي يفسره الارتفاع المضطرد لأسعار الغاز خلال الأسبوع الأخير فيما اتخذ النفط منحنيات معاكسة.
أما الصين، التي يعاني الغرب تملصها السلس من جميع المحاولات الحثيثة لمحاصرتها، فلن تتأثر، بل بالعكس، فلربما يسوق التضييق القهري على تجارة الطاقة نحو الأسواق الأوروبية، انتعاشا متزايدا لأسواق آسيا خلال مرحلة حرجة من الحرب الاقتصادية العالمية الناشبة.
فيما الولايات المتحدة، المتنازعة الولاءات بين أجنحة نظامها العميق، ومع التصاعد المحتمل في أسعار النفط بما لا يقل عن 15 دولارا إذا نجحت الخزعبلات السعودية «البريطانية» في باب المندب، فستشهد هي الأخرى انتعاشا لكارتيل النفط من «إكسون موبيل» إلى «شل» و«شيفرون» ممن يناصرون التصالح مع الغاز الروسي، ويقفون اليوم عثرة كأداء أمام تفجير اتفاق هلسنكي على أيدي الجناح الآخر الذي استعاد أول أمس لغة التنويع على السيلين الروسيين الشمالي والتركي، مهددا باتخاذ «الوسائل الدبلوماسية لضمان الأمن في قطاع الطاقة عن طريق تنويع المسارات والمصادر والصادرات»، «قبل أن يتوعد «الشركات التي تنخرط بمشاريع أنابيب الغاز الروسية».
البكائية «الملكية» السعودية ما فتئت تتنقل من مضيق هرمز، فالقلمون السوري شمال جبال السروات، لتجلس اليوم القرفصاء فوق هضابها الجنوبية المطلة على باب المندب.
ثمة مناطق أخرى على لائحة الانتظار، طالما أن بريطانيا لا زالت أسيرة الأحلام البائدة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن