من دفتر الوطن

البطل

| زياد حيدر

يتولع بعضنا بالبحار، وبعضنا الآخر بالجبال. لكن لي صديقة تعشق الحجارة. تؤمن لشغفها بالتاريخ أن الحجارة تمتلك روحاً، وأن هذه الروح هي ذاكرتها التي تكونت عبر آلاف السنين، حتى تحولت من تجمع ذرات الغبار، لشكلها الحالي، فامتدت أيد وأدوات عليها، صنعتها وفقا لخيال نحاتين، أو حاجة بنائين.
ورغم أن الأشجار تموت، وكذلك المخلوقات الأخرى، إلا أن الصخور والحجارة تبقى خالدة تقريبا، «فتحيا» آلاف السنين، وتروي – إن تمكنا من فك رموزها- سيراً وقصصاً من نبع لا ينضب.
والحجارة فعليا، كالأوطان، يمر عليها ما يمر، ويعبر فيها من يعبر، لكنها تبقى راسخة صامدة، في كتب التاريخ، وقصص الكبار، وموسوعات الحكماء.
ولصمود الأوطان دائماً أبطال، يميل البشر لجعلهم خارقين، على هيئة فرسان ومحاربين، وقادة كبار. لكن لهذا الصمود قصصاً أخرى، لا تُروى لقلة جاذبيتها.
فرسوخ الأوطان ليس فقط بمن يدافع عنها في الجبهات، والمحافل الدولية، أو بالذين يجدون الوسائل لجلب الممنوع وكسر أنواع الحصار الظالمة، أو مكافحة مظاهر الخلل والفساد ومقاومة عناصر التخريب بمن فيهم من يلف علم البلاد حول كتفيه ويحاضر بالوطنيات ليل نهار.
رسوخ الأوطان وأناشيدها العاطفية عن الصمود والنصر، تتناسى عن قصد غالبا، بطلا منسيا، لم يحمل بيرقا لامعا، ولا امتطى فرساً أصيلاً.
إنه المواطن الذي ببساطة رفض أن يتغير.
فهو لا يقاتل لأن ثمة خدمة إجبارية، وقوانين ملاحقة وحرمان وعقاب. وهو لا يستيقظ صباح كل يوم متوجها لعمله لأنه ينتظر راتبا شهريا لا يكفي لسد الرمق ولا يرسم أفقا ولا مستقبلا. وهو لا ينحني أرضا على تربة حمراء غنية يغرس غرسة تحتاج عاماً لكي تثمر، لأنه ينتظر الحصول على ربع ثمنها الحقيقي لاحقا.
هذا البطل هو المواطن الإنسان الذي أبى أن يتغير. رسمت أمامه مسارات للتغيير، والقنص والسرقة والنفاق والفساد والإفساد ولم يتغير.
وُضعت أمامه طرق عديدة لكي يتصيد من مستنقع الحرب ما يعينه على صعوبة الحياة، وربما ما يغنيه أيضا، ونصبت أمامه أيضاً كل شباك اليأس والاستسلام.
هذا البطل استيقظ كل يوم، يرى علما لا يرغب في استبداله، وأرضا لا يقبل بغيرها، وضميرا لا يحتمل التراخي، وقلبا لا تنقصه الرحمة.
رضي هذا البطل بما لديه، ليس لأنه مستكين مهزوم، وإنما لأنه مستعص على التغيير، فهو ذاته الذي لم يدفع رشوة أبدا، ولم يتخلف عن دفع ضريبة، ولم يتأفف من خدمته الإلزامية، ولم يتجاوز إشارة مرور حمراء، وظل يقرأ وقبله أهله الجرائد الحكومية غير مصدق لما فيها، ولكن بكل أمل أن ثمة يوماً ما قادماً أجمل وأفضل.
ظل هذا البطل المنسي مقتنعا بأنه الصح، وأنه يوماً ما سيُكرّم وحينها سيضحي بكل مكافأته المُحتملة لمن هم بحاجتها فعليا، ولطالما نام وفوق سريره الحكمة التي ورثها أبا عن جد متنقلة بين البيوت والأجيال «اصبر فأنت على حق».
هذا البطل الذي لم يتوج ولن يتوج، ربما يحلم أحياناً بالهجرة أو بتهجير أولاده على الأقل.
ربما يحلم الآن بجائزة يانصيب، تقيه غدر الأزمان، وربما جل تمنياته الخجولة هي في رؤية أهله وأولاده وجيرانه بصحة جيدة يحيون بكرامة من دون حاجة لئيم أو مرض مستعص.
هذا البطل الذي لم يتوج ولن يتوج، هو الأقلية الفعلية الوحيدة في هذا البلد.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن