الأولى

العقوبات الأميركية: مناورة ميتة

| بيروت – محمد عبيد

يصح إطلاق صفة «التذاكي» على المناورة السياسية التي قام بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد الجمهورية الإسلامية في إيران منذ الإعلان عن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي في أيار من العام الحالي.
غير أن هذا المناورة التي ارتكزت على مجموعة تحذيرات وإجراءات تقليدية مكررة ماتت قبل أن تولد. فبعد انسحاب ترامب من الاتفاق المذكور كثرت التحليلات الدعائية التي أطلقتها الماكينة الإعلامية الأميركية-الإسرائيلية-السعودية حول أن هذه الخطوة هي ليست سياسية-إدارية فقط بل إنها مقدمة لإعلان الحرب المنتظرة على إيران لإسقاط النظام فيها منذ أكثر من ثمانية وعشرين عاماً، أي إثر إخفاق العدوان الصَدَّامي المدفوع خليجياً ودولياً ضدها. وعلى الرغم من وحدة الهدف بين الأطراف الثلاثة: واشنطن و«تل أبيب» والرياض في ما يعني السعي للانتصار على إيران، لكن مفهوم هذا الانتصار كان مختلفاً لدى كل منها. فالولايات المتحدة التي تدرك جيداً مدى نفوذ إيران الإقليمي إضافة إلى قدراتها الداخلية على المستويات كافة، يقتصر أقصى طموحها على السعي إلى «تغيير سلوك» النظام الإيراني وبالأصح نقله إلى موقع الحليف أو التابع الذي يحفظ مصالحها كما درجت على ذلك مع النظام الشاهنشاهي البائد. في حين أن المحرض الإسرائيلي يعتبر أن مجرد وجود هذا النظام بخياراته الإستراتيجية حول إزالة كيانه وتوفير كل الإمكانات والمقدمات لتحقيق ذلك، وبالتالي فإن أقل من اقتلاع جذور هذا النظام وتدمير حلفائه لا يمكن أن يمنح هذا الكيان الاطمئنان الدائم على الوجود. أما المحرض الثاني «السعودي» فإن أمانيه بإزالة النظام الإيراني أو على الأقل سحب «أظافره» الإقليمية –كما يصفها- مما يمكن أن يتيح له العودة إلى السيادة على منطقة الخليج بضفتيه دون منازع، والأهم الإمساك المطلق بمفاتيح العالم الإسلامي بلا أي شراكة حتى ولو كانت متوازنة.
بين الوقائع التي يعرفها جيداً الأميركي وبين الأمنيات التي يتوهمها الإسرائيلي والسعودي، وجدوا الثلاثة أنفسهم أمام عجزٍ مُحكم نتيجة لأسباب عدة أبرزها: أولاً، نجحت القيادة الإيرانية في اكتساب ثقة معظم دول العالم وفي مقدمها روسيا، الصين، الهند إضافة إلى الدول الأوروبية الموقعة الاتفاق النووي، وذلك نتيجة للوفاء بالتزاماتها وتعهداتها كافة فيما يعني هذا الاتفاق والاتفاقيات السياسية والاقتصادية الثنائية والجماعية الأخرى. وهي بذلك أسقطت كل الادعاءات المحتملة التي كان يمكن أن تتذرع بها الإدارة الأميركية الحالية لمحاصرة طهران وعزلها إقليمياً ودولياً، بل إن الأمر انعكس سلباً على واشنطن بسبب «تمرد» تلك الدول وعدم إذعانها لمطالباتها بمشاركتها العقوبات الأحادية الجانب أو على الأقل تجميد الاتفاقيات المذكورة مرحلياً.
ثانياً، تماسك الوضع الداخلي الإيراني وسقوط رهانات أطراف العدوان الثلاثة الأميركي والإسرائيلي والسعودي على إمكانية تحريك شارع عريض مماثل لما سُميّ سابقاً «الثورة الخضراء»، وبالتالي فإن جُلَّ ما استطاعوه محاولات متأرجحة للتأثير في سعر صرف العملة الوطنية واجهتها القيادة بإجراءات جذرية تمثلت بحملة اعتقالات طاولت مجموعة من المتورطين بالتلاعب بالعملة، إضافة إلى وقف استيراد أكثر من 160 سلعة أجنبية واستبدالها بمنتجات وطنية، والأهم من ذلك كله البدء بتنفيذ رؤية اقتصادية حملت شعار «اقتصاد المقاومة» وضعها مرشد الجمهورية السيد الخامنئي بالتعاون مع كبار رجالات الدولة والخبراء الاقتصاديين كاستباق لبدء تنفيذ برنامج العقوبات الأميركية بدءاً من أمس الثلاثاء. إلى جانب أن إيران اعتادت في ظروف عزلة دولية وإقليمية سابقة أصعب وأعقد أن تتغلب على عقوبات أقسى وأكثر شمولية، فكيف بها اليوم مع عقوبات قاربت أن تعزل العازل!
ثالثاً، انتصار محور المقاومة على أكثر من جبهة إقليمية، وهو المحور الذي شكلت فيه إيران «دولة المركز» خلال السنوات الماضية. هذا الانتصار الذي جعل من دوله وفي مقدمها إيران وسورية وقواه وعلى رأسها حزب اللـه حاجة إستراتيجية لمعظم دول العالم في معركة محاربة الإرهاب الدولي الذي هدد واستهدف عواصم ومدن تلك الدول. هذا إضافة إلى انضمام دول وقوى جديدة إلى هذا المحور كاليمن والعراق، والأكثر أهمية نشوء علاقة إستراتيجية بين ركيزتي المحور المذكور إيران وسورية مع القيادة الروسية، وهي علاقة تعمقت وتجذرت بفعل القتال المشترك ضد الإرهاب في الميدان السوري.
الأشهر القليلة المقبلة ستحدد حجم الفشل الأميركي الذي لاحت بوادره من خلال عدم قدرة إدارة ترامب على تشريع عقوباته ضد إيران دولياً وإلزام حلفائه الأقربين باعتمادها أو حتى مراعاتها، كما أنها ستكشف مدى الحاجة الإسرائيلية للاستمرار في الاستثمار على النظام السعودي بعد إخفاقه في تسويق وتمرير «صفقة القرن» عربياً وإسلامياً، والأهم المأزق الذي وضع الأميركي نفسه وحلفاءه فيه بعد استبعاده احتمال شن حربٍ ضد إيران.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن