اقتصاد

ما بعد «نيوم غيت»!

| علي محمود هاشم

دخلت المفخخة الخليجية طور البلوغ، آخر المتحالفين الأعراب في أبو ظبي ومملكة السعودية، ولجوا مؤخرا جولة تناهش متبادل متوقعة، جراء فشل حفلات تناهشهم المشترك ضد الآخرين.
نيوم، المدينة العابرة للحدود بالـ 26 ألف كيلو متر مربع من مساحتها الموزعة على الجغرافية السعودية الأردنية المصرية و«الإسرائيلية» المشتركة مع خليجي العقبة والسويس، سوف تكون مدينة «عالمية، ذكية وحرة» تستضيف الصناعات التكنولوجية والسياحية وما إلى ذلك.. الجميل في الأمر، أن كل إضافة للبنة جديدة في هذه المدينة تستدعي الكشف عن المزيد من خفاياها، فبمجرد وضع «خيط الميزان» لبناء مداميكها، لن تلبث أن تفتضح زاويتها الإسرائيلية الشمالية.
ثمة فضاء اقتصادي سياسي غامض لا يزال يكتنف صحراء سيناء منذ إعلان تنظيم الإخوان المسلمين الذي حكم مصر تحويلها إلى «إقليم اقتصادي عالمي» يختزل ارتباطه بمصر على سلطتي الدفاع والخارجية.. لم يلبث حكم الإخوان أن انقلب بعدها، ليس لعطب في الهدف، وإنما نتيجة تنافس أعراب الخليج على «عرابية» هذه الصفقة الممتدة إلى «صفقة قرن».
في «نيوم»، المستنسخ عن «إقليم سيناء المستقل»، جرى تصغير المساحة المصرية من نحو 66 ألفاً إلى 1000 كم مربع، قبل إضافة مساحات «تعويضية» أخرى على البر السعودي متضمنة جزر تيران وصنافير، والأردني متضمنا العقبة، وبطبيعة الحال «إسرائيل» بما فيها ميناء إيلات..
البر المصري الذي تقلصت مشاركته النظرية في «نيوم» قياساً بـ«إقليم سيناء»، اقتصر هذه المرة على سواحل سيناء على خليج العقبة مرورا بشرم الشيخ، لكن تم تمديده إلى خارج سيناء بإضافة مدينة الغردقة على مدخل خليج السويس عند الساحل الغربي للبحر الأحمر، هذه البقعة هي مستهل قناة السويس الأداة الحيوية التي لا تزال السبب الرئيس في منع تقسيم مصر إلى دويلات، بعضها طريف على غرار «مملكة بئر طويل» غير المعترف بها قرب الحدود مع السودان، «أو مملكة شمال السودان» كما أعلنها ملكها الأميركي جيرميا هيتون؟!.
على المقلب الإسرائيلي، سرعان ما تكشفت أبعاد المشروع، قبل أيام أعلنت المملكتان «الأردنية والإسبانية» عن قرض ميسر تقدمه الثانية للأولى في سياق إنشاء «قناة البحرين» التي ستربط البحرين الأحمر والميت، هذا المشروع الذي لطالما حظي بدعم البنك الدولي، يقع ضمن أراضي ومياه مشروع نيوم، ويتقاطع معه في الأهداف، فالقناة «الحلم الإسرائيلي» التي ترتكز إلى تنظيرات تيودور هرتزل مطلع القرن الماضي، ما كان لها أن تتم وفق بنود اتفاقية كامب ديفيد، لو لم تمنح مصر جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، الأسوأ، أن دخول الغردقة قرب مدخل خليج السويس يعني تسليم مفاتيح قناتها الحيوية إلى آخرين في الوقت الذي يعلم فيه الجميع بأن ربط البحر الميت بالأحمر هو الشرط الجازم والأكثر حرجا لمشروع هرتزل ومن بعده بن غوريون منتصف القرن الماضي، ومن ثم شارون في ثمانينياته، بربط المتوسط عند حيفا، بالبحر الميت… والحال كذلك، أي أمن حيوي وبأي ثمن باعته مصر في «نيوم»؟!.
«إقليم السويس» الذي أطاح بالهيمنة القطرية على مصر، أضحى اليوم «نيوم» وفق همينة سعودية، إلا أن قائمة الضحايا تشمل آخرين، وفي مقدمهم الإمارات التي بدأت حملة تناهش غير متوازنة مع حليفها السعودي، لا بل حتى الصامتين على مدى التهتيك الفاجر للفضاء الاقتصادي والسياسي العربي خلال السنوات الثماني الأخيرة، ضاق بهم الحال، فدبي الضحية التالية لـ«نيوم»، أطلقت لسان الشيخ محمد بن راشد في انتقادية قاسية لـ «فساد الحكام العرب» و«انجرارهم وراء تحقيق أهداف الغرب» على حساب شعوبهم.. بالطبع، لا يمكن تجاهل تصويب ابن راشد في ذلك على ابن سلمان.
مشروع «نيوم» الذي يعتلي هرما من أحلام «المضائق المائية» التي يتطلع حالموها من الكيانات والدول المصنفة كمحدودة «الحيوية الجغرافية» على غرار السعودية و«إسرائيل» ومملكة الأردن «إحدى ضحايا المشروع»، لا يزال يختزن الكثير من المفخخات الموزعة على طريق الحرير وقناطر الطاقة، والتي ستنفجر تباعا عقب الانفجار الافتتاحي الذي يتوقع أن ينبثق من الأقبية العميقة لإمارة دبي.. وقد يليه -لربما- جنوب العراق.
فمع كل مدماك جديد في «نيوم» ملتبسة السيادة بقوانينها الداخلية التي تضعها خارج سلطات أي من البلدان «المعلنة على الأقل»، ثمة مدماك يتوجب هدمه في مكان آخر، وهذه «المدينة» أياً كان ترجمة اسمها الحقيقية: مكة الجديدة!، مملكة «داوود الجديدة»، المستقبل الجديد… لن تقوى على النهوض إلا فوق هياكل أخرى..
حتى الآن، لا تزال أسئلة «نيوم» الجوهرية معلقة، بعضها يتعلق بانعكاسات هزيمة الحرب على سورية واليمن التي لم تندلع لأسباب غير ذات علاقة، إذ إن بقاء مفاتيح جغرافيتهما -وتحديدا سورية- خارج سلسلة مفاتيح الغرب، سيقلص أفق «نيوم» إلى حدود «الفضيحة التطبيعية» بلا طعم أو لون أو رائحة.

 

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن