ثقافة وفن

كيف يُقاوم الأدب؟

| د. رحيم هادي الشمخي

الحياة لا تتوقف، والتغيير هو القانون المطلق الذي يحكم حركتها، ومهما تشابهت اللحظات تحتفظ كل واحدة منها بخصوصيتها واختلافها، إنك لا تنزل النهر الواحد في اليوم الواحد مرتين، هذا التغيير هو الذي يحكم إعادة الكتابة، أو لنقل الكتابة من جديد عن موضوع كتبت فيه كل الشعوب والحضارات والمفكرين والمبدعين: كيف يقاوم الأدب؟
لقد ربط الكثيرون بين المقاومة والأدب الواقعي، والملتزم أو المناضل أو أدب القضية وغيرها من المصطلحات التي تحدد للأدب عدداً خارجياً (أي خارجه) ينبغي أن يواجهه ويعد على هزيمته، ولاشك أن الشعوب في حالة الاحتلال الخارجي أو القهر الداخلي، تكون في حاجة إلى أدب وفن ينيران الطريق لمواجهة هذا الاحتلال، وهنا يأتي المعنى المباشر لمصطلح (أدب المقاومة)، ويعرف تاريخ الأدب نماذج راقية لهذا الأدب سواء في تأديتها رسالتها المقاومة أو في إخلاصها لماهيتها على اعتبارها أدباً وليس مجرد خطابة أو شعارات.. ولا تزال البشرية تعرف ذلك، وسوف تعرفه، وعلينا أن ندعو إليه وندعمه، فنحن بالتأكيد في أمس الحاجة إليه في ظل ظروف الاحتلال الذي تعيشه العراق وفلسطين، والمؤامرة الكبرى على سورية العربية وتدمير ليبيا الدولة، وحرق اليمن السعيد، والقهر في كل أوطاننا، غير أن ما يشهده عالمنا من تحولات في أنماط الاحتلال والقهر بفعل هيمنة القطب الأميركي الواحد، وبفعل إمكانات التطور التكنولوجي التي تستخدم في التفنن في أشكال الاحتلال وأشكال القهر، يدعونا إلى النظر المتعمق لإعادة النظر في مفهوم أدب المقاومة.
إن الاحتلال الأميركي والهيمنة، وإن عاد إلى النمط التقليدي من الاحتلال، ذلك الاحتلال العسكري المباشر للأرض والثروات والبشر، فإنه لا يكتفي بذلك، وإنما يسعى إلى احتلال المنطقة كلها بشكل مباشر، وذلك بفرض وتسييد النموذج الثقافي والقيمي الذي يحتاجه لخدمة مصالحه وتأمينها في الحاضر والمستقبل، وهذا الغرض يتم كما تسعى الولايات المتحدة الأميركية باحتلال مناهج التعليم والإعلام والثقافة وأنماط الترفيه والتدين، وكل شيء، بالإضافة طبعاً إلى احتكار الأسواق وهي كلها احتلالات تتم عن بعد، أي عبر وسائل التكنولوجيا الحديثة والسريعة، وفي هذا السياق فإن بعض الأنظمة تسهم في تحقيق هذه الاحتلالات، إما نتيجة للتبعية والعمالة، أو نتيجة للضعف بسبب عدم التحامها مع شعوبها وممارسة القمع عليها. إن هذا التوسع في مفهوم الاحتلال، وكذلك التعقد والتركيب، يقتضي الدرجة نفسها أو أكثر من التعقد والتركيب في مفهوم المقاومة، حيث يصبح كل فعل على أي مستوى من المستويات، وفي أي مجال من المجالات للحياة، يعرقل تحقيق هذا المفهوم للاحتلال، فعلاً من أفعال المقاومة، وهذا المفهوم الجديد للمقاومة يشمل بكل تأكيد الأدب والفن، حيث يمكن القول: إن كل نص أو علم فني يمثل نقيضاً أو مخالفة لمفهوم الاحتلال الأميركي شكلاً من أشكال المقاومة، حتى لو لم يتطرق بأي شكل من الأشكال إلى قضية المقاومة أو قضية الاحتلال، فإن يصر الشاعر أو الروائي أو المسرحي أو الموسيقي… إلخ على حقه في أن يفكر كما يشاء ويكتب كما يشاء من دون فرض أو قهر أو تنميط، فهذا في حد ذاته شكل من أشكال المقاومة، لأن الاحتلال لا يريد ذلك مهما كان موضوع الإبداع، عن المرأة أو الطبيعة أو الذات. على هذا الأساس أستطيع أن أبالغ قليلاً لأقول إن فعل الكتاب أو الإبداع ذاته، ما لم يكن موجهاً للدعاية للاحتلال والقهر، هو فعل مقاومة، لأن استخدام الوسائل المعتادة (اللغة مثلاً) في إنجاز عمل لم يكن موجوداً من قبل، يضيف رصيداً جديداً للحياة والمستقبل، ولنتخيل حياة خالية من الكتابة الجديدة، لاشك في أنها ستكون حياة جافة ونابضة، وإذا استمرت من دون كتابة جديدة، فلابد أنها ستنقرض، مثلما انقرضت حياة الهنود الحمر، لأن مثقفيهم وكتابهم فقدوا القدرة على إنتاج المعنى الجديد، فقدوا القدرة على التواصل مع شعبهم، كتابة أو شفاهة، فخسروا المعركة وانقرضت الحياة، كان لابد من هذا المدخل لأن حالات الإحباط واليأس التي أصابت المبدعين والمثقفين العرب الشرفاء، تكاثرت ووصلت ببعضهم إلى حد الصمت والكف عن الإبداع إحساساً بعدم جدواه، كان هذا حال الكثيرين قبل الانتفاضة الفلسطينية السابقة التي أعادت الروح والأمل لدى معظم هؤلاء، لكنهم سرعان ما اصطدموا باحتلال العراق والضربات القاسية للمقاومة الفلسطينية البطلة:
لقد شهدت السنوات الثلاث السابقة على احتلال بغداد من الأميركيين، موجة عارمة من أدب المقاومة بالمعنى الاصطلاحي السابق ذكره، إذ امتلأت صفحات الجرائد والمجلات ومواقع الإنترنت بقصائد التمجيد للمقاومة والاستشهاد، والأمل في حياة جديدة أفضل وأجمل، وعرفنا تحولات في التوجهات الفنية لأجيال من الشعراء وغيرهم من المبدعين، كانت تلوذ بذاتها التي تحولت إلى حدود الجسد، واكتشفت (الانتفاضة) أن هناك عالماً خارج هذا الجسد، وأن ثمة إمكانية لفعل إنساني منجز، تبدو اللحظة الراهنة، بعد احتلال بغداد، قاتمة وقاسية رغم استمرار المقاومة في فلسطين، وتصاعد المقاومة في العراق، لم يفق المبدعون بعد من هذه الصدمة، وتبدو المخاطر مهددة لإبداعهم بالتوقف أو العودة إلى ما قبل الانتفاضة والمقاومة، ربما تكون تحولات، وانتقادات أحد الشعراء الفلسطينيين النموذج الأعلى للشاعر العربي المعاصر، أنموذجاً لما قصدت من شعر المقاومة البسيط، إلى درجة أعلى منه، إلى حصار بيروت والخروج منها، ثم أوسلو حيث إعادة بناء الماضي حصناً ثم قصائد قليلة من الانتفاضة ثم صمت، في كل هذه التحولات، وطبقاً للفهم الجديد لأدب المقاومة، اعتبرها ممارسة لمقاومة الاحتلال وطمس الهوية وسرقة الماضي وحق الإنسان في أن يكون إنساناً، وليست حالة هذا الشاعر الفلسطيني حالة استثنائية في الأدب العربي المعاصر، فثمة توجهات فنية متباينة سواء في الشعر أم في الرواية أو المسرح أو القصة القصيرة، وثمة انتقالات أو تحولات يمر بها كل مبدع من مختلف الأجيال طبقاً لتطورات تجربته الإبداعية والظروف التي يعمل في إطارها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن