ثقافة وفن

لم يكن طريق الحرير مجرد طريق يسلكه التجار وحسب بل كان يمثل حياة كاملة محمولة فوق ظهور القوافل

| المهندس علي المبيض

كنا قد ذكرنا في المقالات السابقة أن سورية تنفرد بموقعها الجغرافي المهم لكونها تربط بين القارات الثلاث ومفترق الطرق الحيوية وصلة الوصل الرئيسية بين الشرق والغرب، وتعتبر محطة رئيسية للقوافل التجارية التي كانت تسلك طريق الحرير منذ القدم.
وقد أجمع علماء التاريخ والباحثون بأن منطقة بلاد الشام هي مهد الحضارة الأول في العالم، وكل حضارة على سطح هذا الكوكب تدين بالولاء للحضارة السورية الأولى والتي تعتبر بحق مركز إشعاع الحضارة في هذا الكون، وسنأتي في هذا المقال على ذكر أحد الجوانب، فقد كان له دور رئيسي في تربع سورية على هذه المكانة وهو طريق الحرير.
طريق الحرير الذي سنتحدث عنه هو خط المواصلات البرية القديمة، الذي يصل الشرق بالغرب، يمتدّ «طريق الحرير» على مدى سبعة آلاف ميل وكانت تسلكه القوافل التجارية من الصين وأفغانستان وإيران وبقية الدول الآسيوية باتجاه الغرب مروراً بسورية والتي كانت تعتبر أهم محطة في الطريق، وكان يطلق عليها بوابة طريق الحرير بسبب كونها مفترق الطرق حيث تتجه بعض القوافل شمالاً إلى أوروبا وقسم منها يتجه غرباً إلى شمال إفريقية وسمي طريق الحرير بهذا الاسم بسبب نقل كميات كبيرة من الحرير والمنسوجات الحريرية الصينية إلى الغرب عبر هذا الطريق.

برزت أهمية طريق الحرير كأحد أهم المسارات الإستراتيجية في العالم منذ أن اكتشف الصينيون صناعة الحرير والفنون المتعلقة بها بهذه الصناعة من تطريز وتذهيب أي منذ الألف الثالث قبل الميلاد، لم يكن طريق الحرير طريقاً واحداً بل كان سلسلة طرق تشكل شبكة مترابطة من الطرق الفرعية تصب في طريقين كبيرين، أحدهما شمالي صيفي والآخر جنوبي شتوي، كانوا يسلكونه في زمن الشتاء، ليمروا في طريقهم ببلدان ما لبثت أن ازدهرت مع ازدهار هذا الطريق التجاري الأكثر شهرة في العالم القديم.
لم يكن طريق الحرير ينعم بالأمن والسلام بشكل دائم بل كان يهدده الخطر أحياناً في بعض مقاطع الطريق، وذلك تبعاً لقوة الدولة التي يمر منها الطريق ومدى فرض سيطرتها، مع وجود تقلبات سياسية عديدة تؤثر سلباً وإيجاباً في سلامة وأمان استخدام الطريق.
وقد برع الصينيون في التبادل الاقتصادي والثقافي مع البلدان المشتركة في طريق الحرير في آسيا الوسطى وغربي آسيا حاملة مع القوافل المنتجات العديدة والمتنوعة، فمن الصين جاء الحرير والبارود والبوصلة والورق.
وانتقل عبره الورق حيث تعتبر الصين أول دولة في صناعة الورق فحدث بذلك نقلة كبيرة في المستوى الثقافي والتعليمي والفني والتراثي…. ، فمن خلال السوريين انتقلت صناعة الورق إلى أوروبا وشمال إفريقية ولم يكن أبناء سورية مجرد ناقلين لصناعة الورق فقط وإنما استثمروا هذه المعارف الجديدة واستفادوا منها فازدهر التدوين وتوثيق الأحداث والذي كان للورق دور كبير ورئيسي فيه، وأخذوا من هذه الثقافات واستوعبوها وهضموها وأضافوا إليها من ثقافتهم وفنونهم والخبرات التراكمية الهائلة التي يحملونها والتي تمتد لأكثر من عشرة آلاف عام كما أشرنا إلى ذلك في المقالات السابقة، وكانت القوافل التجارية القادمة من الصين محملة بالبضائع الصينية تقوم ببيع وشراء البضائع مع البلدان التي تقع على جانبي طريق الحرير.
وكانت القوافل التجارية تعود إلى الصين من الغرب وهي محملة بالعطور والجوز والتوابل والطيور والحيوانات النادرة والمجوهرات والأواني الزجاجية والعملات الذهبية والفضية.
وكانت سورية من ضمن البلدان المهمة التي يمر بها طريق الحرير للأسباب التي ذكرناها سابقاً، وكان الحرير الصيني من أهم المواد التي تباع فيها، ولذلك فمن الطبيعي أن تنشط فيها صناعة المنسوجات التي يدخل الحرير في تصنيعها، وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى أن تنشط فيما بعد صناعة البروكار، حيث ازدهرت هذه الصناعة منذ القدم وأصبحت جزءاً من التراث والمخزون الثقافي الذي تميزت بها سورية، ويدخل في تصنيعه الحرير الطبيعي وخيوط الذهب والفضة ومازال يتم تصنيعه في مدينة دمشق حتى اليوم، ويعد من أفخر أنواع الأقمشة في العالم وغدا لباس الملوك والأمراء وأثرياء العالم.
بالعودة إلى طريق الحرير لابد لنا من أن نوضح بأن طريق الحرير لم يكن يستخدم لنقل القوافل التجارية والتبادل التجاري فقط، بل شكل تنوعاً حيوياً وتلاقحاً ثقافياً عز نظيره، ولم يكن مجرد مسار يتم انتقال البضائع عبره بل ساهم طريق الحرير في بناء حزام ثقافي ثري يربط بين الشرق والغرب، وكان له وظائف عديدة وأدوار متنوعة، فبوساطة هذا الطريق كان هناك حراك واسع النطاق بالسياسة والاقتصاد والثقافة.. بين مختلف البلدان التي يمر بها الطريق، ومن خلاله انتقلت إلى الصين الفنون المختلفة وعلوم الرياضيات التي برع فيها العلماء القدامى الذين كانوا يستوطنون هذه المناطق أمثال الخوارزمي وابن الهيثم والفارابي… وغيرهم.
وإضافة إلى ذلك فقد لعب دوراً رئيسياً في تطور العلاقات التجارية والثقافية والصناعية وانتشار الثقافات ليس فقط على مستوى البلدان التي تقع على هذا الطريق بل على مستوى الدول.
كذلك فقد ساعد طريق الحرير في انتشار وانتقال الديانات عبره، فحين ينتقل الأشخاص من مكان لآخر فإنهم يحملون معهم الديانات، فعرف العالم البوذية وعرفت بلدان آسيوية كثيرة الإسلام الذي نقله إليها التجار المسلمون، وكان الهنود الذين أسلموا في أقاليم السند يتحدثون إلى العرب بلغتهم ويرتدون زيهم وملابسهم.
وكما كان هذا الطريق تسلكه القوافل التجارية كذلك فقد كان يستخدمه الرحالة والمستكشفون أيضاً أمثال ماركو بولو وابن بطوطة.. فحين نستعرض ما كتبه ابن بطوطة نجد أنه قدم وصفاً دقيقاً للحياة في الصين بمختلف نواحيها.
وساهم طريق الحرير بشكل كبير في تطور وازدهار الحضارات القديمة التي كانت قائمة وانتشارها مثل الحضارة في الصين والهند والحضارة الرومانية والمصرية…
كما سلكته الجيوش في الحروب الكبرى التي خاضها الاسكندر المقدوني والمغول والتتر، وانتقل عبره البارود فعرفت الأمم الحروب المدمرة، وكان طريق الحرير نظراً لأهميته الإستراتيجية وموقعه ووظيفته يشكل مطمعاً للعديد من الدول وكان سبباً لاندلاع الحروب وكانت السيطرة عليه حلماً يراود أذهان العديد من القادة العسكريين بسبب الفوائد التي تجنيها البلدان التي يمر فيها، والأرباح الكبيرة التي كان يجنيها التجار فيها، حيث يقوم أبناء هذه المنطقة بلعب دور الوسيط في التبادل التجاري.
لذلك فقد كانت السيطرة على أرباح التجارة الصينية والهندية السبب الرئيسي والمحرك المهم للحروب التي اندلعت وكانت تختلف تسمياتها وأشكالها حسب المرحلة التاريخية ومن دولة إلى أخرى.
يمثل طريق الحرير حكمة الشعوب التي استوطنت البلدان التي تقع على جانبي الطريق وأصبح طريق صداقة تربط بينهم ووسيلة لتبادل الفنون والعادات والتقاليد بين أبناء تلك البلدان، إضافة إلى دعم ثقافة الحوار وتقريب وجهات النظر وتخفيف حدة العداوات بين الشرق والغرب، وانتقلت مع البضائع التجارية الثقافة والفنون والمعارف إذ سلكته القوافل التجارية قبل الميلاد حتى نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، محمّلة بالحرير والورق والبضائع الصينية ومعه حملت المصنّفات الأدبية والفكرية والحكمة والقيم والعادات والأديان.. ومما لا شكّ فيه أن رحلات طريق الحرير قد أغنت ذاكرة شعوب هذه المناطق وأثرت حضاراتها.
لم يكن طريق الحرير مجرد طريق تسلكه القوافل التجارية فحسب بل كان يمثل حياة كاملة محمولة فوق ظهور القوافل وعابرة للجغرافيا تمضي شهوراً من مكان إلى آخر.
ومن المهم جداً أن نذكر عند الحديث عن طريق الحرير أن هذا الطريق لم يكن باتجاه واحد فقط أي من الشرق إلى الغرب بل كان طريقاً باتجاهين أي ذهاب وعودة وهذا ما يفسر انتقال البضائع والعلوم والثقافة والفنون من سورية إلى جميع دول الشرق والغرب، بدليل ما ذكره أبو العباس اليعقوبي أحد مؤرخي القرن التاسع الميلادي في كتابه «تاريخ اليعقوبي» فقد قال إن الملك الصيني خرابات أرسل موفده إلى منطقة شرق المتوسط ليستورد من منطقتنا الآلات والتجهيزات الصناعية تمهيداً لنقل بعض الصناعات التي تشتهر بها سورية وتأسيسها في الصين وهنا يبرز أهمية الدور السوري الذي ذكرنا جانباً منه سابقاً.
كما ذكر عدد من الباحثين أن بعض الكنائس التي بناها فرسان الهيكل فيما بعد قد تأثرت بأسلوب العمارة الأموية وفنونها المرتبطة بها، وبنمط قبة الصخرة في القدس كقلعة كاستل دل مونتي في إيطاليا.
وقد يكون هذا أحد التفاسير التي يمكن اعتمادها لوجود بعض الأعمال الفنية في بعض مناطق مختلفة من العالم تتشابه إلى حد كبير مع الأعمال الفنية التي كانت تسود منطقتنا، ويمكن أن نفهم اكتشاف تمثال في مدينة نسا في جمهورية تركمانستان يشابه بل يتطابق تماماً مع تمثال في تدمر يجسد طفلة تحمل غصناً وحمامة، إضافة إلى تشابه الكتابة الموجودة خلف التمثال، وكذلك التشابه الواضح الموجود بين بعض أعمال الفنان بيكاسو ومنحوتات تدمر وتأثره بها على الأقل في طبيعة المفردات، ولاشك أن وجود طريق الحرير قد ساهم في ذلك وشجع على التبادل الثقافي والفني بين الشعوب.
نقطة مهمة لابد أن أشير لها في معرض الحديث عن طريق الحرير وهي أن مدينة تدمر كانت تعتبر من أهم محطات طريق الحرير، وأسهم هذا الطريق والتبادل التجاري فيها إلى ازدهارها تجارياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً.. وبرزت ملكتها زنوبيا هذه المرأة الطموحة الذكية الفائقة الجمال كواحدة من أبرز نساء التاريخ، وقد دغدغت بمسيرة حياتها مخيلة الفنانين والكتاب.. حيث جذب سحر مدينة تدمر تلك السيدة الأرستقراطية الإنكليزية الحسناء جين إليزابيث دغبي (1807-1881) وغامرت بالقدوم إلى تدمر وعاشت في البادية مضحية برفاهيتها كواحدة من بنات تدمر وتزوجت الشيخ مجول المصرب العنزي وقضت معه نحو ثلاثين عاماً لم تزر بريطانيا خلال هذه الفترة إلا مرة واحدة وكانت تقضي أيامها في حلب الغنم وخض الحليب وجلب الحطب وفي مداواة المرضى والعناية بالخيل وإرشاد النساء، وتنقلت خلال حياتها في سورية بين تدمر وحمص ودمشق التي آثرت أن تكمل حياتها فيها وتموت وتدفن فيها.
وأجد أنه من الضروري التأكيد أن هدفنا من وراء هذه المقالات الأسبوعية أن يكون القارئ على معرفة بتراثه وأهميته والدور الذي لعبته سورية عبر تاريخها الطويل، وأن يضعه من التقدير في مكانه المناسب وأن يسعى لمد جسور التواصل بين الماضي والحاضر للانطلاق نحو المستقبل بثقة لا يدانيها أي شك باعتبار سورية منتجة للحضارة وليست متلقية لها.
ونبقى نحن أصحاب وعشاق هذه الأرض الطاهرة..
نعيش عليها ونقدس ترابها ونورث حبها الأبدي للأجيال.. جيلاً بعد جيل.
سورية الراسخة..
سورية الشامخة..
ستبقى عصية على الأزمات التي تعصف بها، كما تجاوزت طوال عمرها المديد كل الأزمات التي مرت بها.
وللحديث بقية…
معاون وزير الثقافة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن