شرح الشافية للجاربردي تقريب للصرف وشرح لأهم المتون…تلقى علومه في تبريز وتتلمذ على البيضاوي فكان علماً في الفقه والتفسير
إسماعيل مروة :
الصرف العربي، أو التصريف، أو كما يعرفه كثيرون «بناء الكلمة» علم فيه الكثير من اللبس والغموض والصعوبة، وفي مناهجنا يتم دمجه مع قواعد النحو العربي، وأحياناً مع قواعد «النحو والصرف» فماذا عن انفصال العلمين وعن اتصالهما؟ وفي الأبحاث التي يدرسها الطلبة، وفي المرحلة الجامعية، نجد ابتعاداً عن الصرف لوعورة مسلكه، والأساتذة يبتعدون عنه لعدم تمكنهم من أبنية الكلمة، والطالب يرى نفسه في غنية عن درجات هذه الأبحاث، لذلك يزهد بها ويبتعد عنها وعن إتقانها، شأنه في ذلك شأن العروض وعلم البيان والبديع، لذلك يتخرج الطالب في الجامعة متخصصاً، وهو بعيد عن هذه العلوم! وإن عرف منها فهو يعرف العناوين فقط من دون الدخول في التفاصيل التي يمكن أن تجعله أكثر قرباً من اللغة والكلمة وجوهرها.
الشافية والصرف
الشافية لابن الحاجب أشهر متون الصرف في العربية، وعليها أقيمت شروح كثيرة لها قيمتها وأهميتها، في الشرح، وفي التأسيس لعلم الصرف، ولو عدنا إلى المكتبة اللغوية فسنجد الكثير من الكتب النحوية، ونجد ندرة في كتب الصرف، حتى في التصنيف الحديث، يستهلك الحديث النحوي أغلب أقسام الكتاب، ويأتي الصرف ملحقاً بالنحو، ما يوهم بالتبعية وعدم الأهمية، وكثير من المتخصصين يصعب عليهم التمييز، وإن كنت أفصل نوعاً ما بين العلمين، إلا أن الإجابات المحددة الواضحة جاءت في «شرح الشافية للجاربردي» تحقيق أستاذ النحو والصرف في جامعة دمشق الأستاذ الدكتور نبيل أبو عمشة، الذي أعطى سنوات عمره وتحصيله لإخراج نص صرفي مميز في مكانته وإخراجه، قدمه لنيل شهادة الدكتوراه قبل ربع قرن، وها هو يرى النور، وفي مقدمته يظهر أن هذا الاجتماع ليس جديداً، وإنما هو قديم مع نشوء النحو والصرف، والتمييز بين العلمين جاء متأخراً، ولم يدم طويلاً، وبعبارة أدق، إن الذين سلكوا هذا التفريق كانوا قلة.
«علم التصريف الذي تدرس فيه أحوال أبنية الكلم بمعزل عن هيئاتها التركيبية انتهت إلينا جلّ أبوابه عن طريق سيبويه تالية لأبواب الإعراب ومتصلة بها، فالإعراب والتصريف عند سيبويه ومن قفا أثره صنوان.. وقد اجتهد أبو عثمان المازني في الفصل بين العلمين.. ولم تكتمل محاولة الفصل بين العلمين إلا في عهود متأخرة على يد ابن الحاجب 646هـ في مقدمتيه: الكافية والشافية.. لكن أكثر المتأخرين جروا بعده على منهج سيبويه في الجمع بين العلمين».
من هذا النص المقتطف من مقدمة الدكتور أبو عمشة يظهر أن الدمج بين العلمين بدأ من سيبويه في الكتاب، والمحاولات للفصل تعددت، واكتملت عند ابن الحاجب، في المتن الذي شرحه الجاربردي، ومع أن الفصل تمّ إلا أن من جاء بعد ابن الحاجب عاد إلى انتهاج سيبويه ومذهبه في الدمج بين النحو والصرف.
وقفت عند هذه القضية لأهميتها في التعلم والتعليم، ولبيان الأسباب التي تجعل مثل هذا العلم في العربية بعيداً عن التناول، وإن أخذ منه أحدهم، فإنه يأخذ بطرف دون أن ينسبه إلى الصرف!
التاريخ والتصنيف
قدم الدكتور أبو عمشة بدراسة مستفيضة قاربت 300 صفحة، وفي قياسات الحروف والكتب تصل إلى أكثر من ذلك، وفي هذه المقدمة وقف عند عصر الجاربردي وحياته، وقد استمتعت بقراءة هذه المقدمة التي قدمت لي معلومات بعضها أقف عنده أول مرة، وخاصة ما يتعلق بالاجتياحات للبلدان العربية والإسلامية من قبائل المغول «التتار» ورصد من ثم تحول بعضهم في الجيل الثاني إلى الإسلام، وتغلبهم في اختياراتهم الدينية والسياسية والحضارية، ويسجل أن المؤلف، وربما بدافع تخصصه، كان حيادياً وواصفاً، فقدم معلومات تاريخية غاية في الأهمية لا تميل مع الهوى، بقدر ما تجلو الصورة للعصر الذي عاش فيه المؤلف، وبعد الحديث المكثف والعميق عن العصر ينتقل المؤلف للحديث عن علم التصريف، كما وضع حدوده ابن الحاجب فاصلاً بينه وبين النحو، وتأسيساً على ما صنع ابن الحاجب وقف عند الشروح التي تناولت شافيته، والتي تسعى للتأسيس للصرف، وصولاً إلى شرح الجاربردي، فتحدث عن منهجه ومصادره، وأسلوبه في الاحتجاج، ومكانة شرحه، وأثره فيما جاء بعده.. ولا يخفى أن مسألة الاحتجاج فيها كلام، وخاصة بين المتأخرين الذين توسعوا في الاحتجاج، لكن تتبع الشرح يظهر عدم أخذه بهذا التوسع، وخاصة في مسألة الاستشهاد بالحديث الشريف الذي كانت مواضع الاستشهاد به معدودة.
وتناول قضايا شائكة من مثل الاستشهاد بما وصل من القبائل العربية، والاقتصار لدى كثيرين بالقرشية مثالاً ومنهلاً، ويرد على من يقول بأن العرب لم تأخذ عن القبائل العربية غير قريش «وما اعترض به هذا الباحث على اللغويين أنهم اكتفوا بتسجيل القرشية وأهملوا ما سواها فيه إجحاف بحق هؤلاء الذين أنجدوا إلى قيس وتميم وأسد، وارتحلوا في بوادي الحجاز وتهامة يجمعون مادتهم من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة».
وفي اللغات قدّم قراءة يحتاجها الكثيرون، إذ يعمد أحدهم إلى معنى لغات العرب، فلا يكاد يميز بين اللغة واللهجة، وقد يستمر الاستدلال للنيل من مقدس، أو لتهشيم صورة اللغة، واعتمد على أن الصرف هو العلم الذي تربطه وشائج قربى مع مصطلح اللغات: «إن بعضاً من هذه اللغات هو في جوهره حالة من الأحوال التي تطرأ على البناء، وعلماء العربية جمعوا في كنائنهم ما شافهوا به أهل الفصاحة من شتى القبائل والبطون».
واختياره للموضوع لم يمنعه من انتقاده، ولم يكن معجباً بالجاربردي إلى درجة تجعله يغمض العين عما في شرحه، وها هو يذكر الشروح كلها، ويحدد مكانة شرحه بين الشروح الأخرى، ويسجل ملاحظاته على الشرح.
«المادة العلمية التي تضمنها الشرح ليس فيها للجاربردي وغيره من المتأخرين إلا فضل الجمع والترتيب وبعض التحقيقات» وينتقد الجاربردي، وهذا مما يحمد له «ضعف ثقافة الجاربردي الأدبية بوجه عام، لم يكن يحسن التلخيص، وقوعه في الأوهام، اختلاف كلامه باختلاف المواضع..».
وهذا كله يجعلنا نقف باحترام أمام العمل الذي نظر إلى الشرح والشارح نظرة علمية، وللحقيقة فإن ما في هذه المادة العلمية من فوائد يجعلها جديرة بأن تطبع مفردة وحدها، وطبعها وبهذا الحجم مع النص المحقق يجعلها أسيرة النص ويحرم القارئ والطالب على السواء من فهم آلية النقد العلمي الذي تتبع كل شاردة في النص والمنهج.
نص الشرح على الشافية
لا يحسن عرض أو تلخيص الكتاب الذي يعد من أمّات كتب الصرف لسببين، الأول يتعلق في تعذر التلخيص، وعدم جدواه، لكتاب تجاوز 770 صفحة، والثاني لأنه لا يقدم الفائدة المرجوة في صحيفة يومية غير متخصصة، ولو كانت متخصصة يحسن أن نقف عند كل فاصلة من فواصله، ولكن لابد من الإشارة إلى الأبواب التي سلكها المؤلف في أبواب الصرف، والتي يمكن أن تفصل ما بين النحو والصرف، ففي حد التصريف تناول الجاربردي متتبعاً ابن الحاجب الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية، وأبنية الفعل، والميزان الصرفي، والمجرد والمزيد.
ووقف عند أحوال الأبنية في الأفعال الماضية والمضارعة والأمر، وما تقدمه الأفعال المجردة من معانٍ، وما تضيفه أحرف الزيادة من معانٍ مثل: العلل والألوان والعيوب والحلى والطبائع والمطاوعة، وغيرها من المعاني التي لا تفهم إلا من خلال الصرف، وجميع الأحوال ترتبط بالميزان الصرفي.
ووقف عند الصفة المشبهة وأوزانها، والمصدر، وأسماء الزمان والمكان، والمصغر، والمنسوب، والجموع، والابتداء والوقف، والمقصور والممدود، والإمالة، وتخفيف الهمزة، والإعلال، والإبدال، والإدغام، والترخيم، والخط والكتابة… وهذه المسائل بجملتها هي قضايا صرفية في أبنية الكلمة اسماً أو فعلاً، وتخرج عن النحو الذي تعارفنا عليه، والقراءة تظهر ضرورة الفصل بين النحو والصرف ما أمكن ذلك، مع عقد مماثلة أو موازنة بين القضايا المتقاربة.
ففي الفعل تناول الصرف الأبنية والمجرد والمزيد، وما يمكن أن يضيف ذلك إلى المعنى، بينما في النحو يتناول الإعراب والبناء للأفعال حسب موقعها من الكلام.
وقراءة فصول في هذا الشرح تظهر ضرورة أن يعاد النظر في تعليم الصرف والتصنيف فيه، وخاصة بعد أن عاد المتأخرون إلى الجمع بين النحو والصرف، وهذا الفصل يسهم في تسهيل النحو، وفي تقديم الصرف على أنهما علمان منفصلان، ومثل هذه الشروح يمكن أن يتم تلخيصها اعتماداً على متن ابن الحاجب، لتصبح مادة مقررة على طلاب التخصص، ولتقدم في المراحل المختلفة من التعليم علماً مستقلاً عن النحو.
العمل في التحقيق
إضافة إلى أهمية هذا الشرح، فإن المحقق الأستاذ الدكتور نبيل أبو عمشة من العلماء الأجلاء في ميدان النحو والصرف، وفي التحقيق، وهو عندما حمل هذا الشرح على عاتقه، فإنه قدّم نصاً مشكلاً، وأغنى المكتبة العربية بنشرة هي أفضل ما ظهر من الشروح ممهداً الطريق لدراسة القضايا الصرفية اعتماداً على المصادر الأولى التي رأت أن الصرف علم مستقل، والمحقق اعتمد في إصدار نشرته العلمية هذه على عدد المخطوطات في المكتبات، إضافة إلى المطبوع الذي كان صورة عن مخطوط، اعتمد المحقق النص الأقرب إلى التمام، والأكثر بعداً عن التصحيف والتحريف، والأقرب إلى عهد الشارح، وقيمة ما قام به المحقق يعرفه القارئ في الحواشي التي ردت إلى المصادر، وقدمت المعلومة الأقرب إلى عبارة المؤلف: مع تخريج ما جاء في المتن، وفي مواقع كثيرة تجاوزت هذه الحواشي نصف الصفحة في المطبوع، ومن دون أي تزيد أو شروح غير لازمة، كما عقد موازنات تبين عبارات الشارح، وعبارات شروح أخرى عاد إليها المحقق، مع الاحتفاظ بعبارة الشارح في المتن، وإثبات العبارة الأخرى في الحاشية.
يعد هذا التحقيق من التحقيقات المثال في الدقة العلمية، وتحري الصحة والصواب من دون زيادة أو تزيد، وخاصة أن العمل في أساسه رسالة علمية لنيل شهادة الدكتوراه، قدمت في جامعة دمشق قبل ربع قرن.
شرح الشافية للجاربردي صدر عن المجمع الثقافي- أبو ظبي 2014 في طبعته الأولى، وعلى الرغم من حجمه الضخم الذي جاوز الألف صفحة، إلا أنه يقدم إضافة مهمة، ويشكل حافزاً لدراسة علم الصرف من خلال شرح من أهم الشروح وأدقها.