ثقافة وفن

رحيل صوت سورية الروائي

| إسماعيل مروة

ورحل الأديب الروائي شيخ الرواية السورية وعاشق البحر بكل تفصيلاته، حنا مينة المبدع الذي لم يتوقف حبر قلمه مهما كانت درجة الاختلاف في تقييم الأدباء، ومهما وقف النقاد مع الأديب المبدع أو ضده، فإن الأدب، والنتاج الأدبي، هو الحكم الأساسي، وهو القادر على الفرز بين ما هو صالح أو غير صالح، أو محايد وغير مؤثر!
وكم من أديب رفعته السلطات أو التيارات ما لبث أن عاد إلى موقعه الطبيعي الذي يفرضه أدبه وتأثيره!! وكم من أديب رفعته مصادفة عمل أو أكثر عاد إلى حقيقته عندما توقف عن العمل والإبداع! هذا مع إيماننا بأن بعض الأعمال المفردة تملك القدرة على إدراج صاحبها في خانة الإبداع العظيم، كما كان من شأن شادي عبد السلام صاحب المومياء، الذي لم يمهله القدر أن يخرج لنا بعمل آخر من المستوى ذاته، أو من مستوى أعلى…
الروائي العربي السوري حنا مينة روائي مختلف، فهو نسيج وحده، لا يشبه نجيب محفوظ في سيرته وثقافته، ولا يشبه محمد شكري حياة وتسكعاً، ولا يقترب من العجيلي فكراً وحياة.. إنه نبتٌ مختلف بكل تفصيلاته الحياتية والروائية والنقدية والأيديولوجية، عاش هذا التفرد بكل تفصيلات حياته حتى رحيله الذي أدمى الرواية السورية صباح عيد الأضحى.
نشر حنا مينة أعماله منذ عام 1942 في الدوريات السورية واللبنانية، ويصرح بأن أغلب هذه القصص البدايات ضاعت وعبثت بها يد الزمن، وبقي يمارس أنشطته الكتابية بعد أن أستقر في دمشق عام 1947، إلى أن أصدر عمله الروائي الأول (المصابيح الزرق 1954) ومما يحمد لهذا العمل الروائي الأول قدرته على أن يكرّس اسم حنا مينة روائياً من الطراز الأول، بل إن عدداً من النقاد أجروا مقارنات بينه وبين نجيب محفوظ في هذه الرواية التي انتشرت في عاصمة الثقافة العربية القاهرة آنذاك، وبعضهم يعزو الاهتمام بالرواية إلى الاتجاه الفكري الأيديولوجي لحنا مينة الذي عمل على دعاية منظمة، وإذا سلمنا بذلك، فإن الرواية لو لم تكن تملك المقومات الفنية العالية، فإنها لن تجد الصدى الطيب، إضافة إلى أن النقاد ليسوا أصحاب ميول واحدة، وكان بإمكانهم أن يفرّغوا الرواية لو لم تكن تملك القدرة على الوقوف والمقارعة والموازنة.
إن رواية المصابيح الزرق كانت علامة لها دلالاتها، ولها فضلها في أدب حنا مينة الروائي، بل وفي الرواية السورية عموماً، إذ استطاعت هذه الرواية أن تلفت الانتباه إلى وجود أدب روائي في سورية، وقد جاءت مرحلة الوحدة – على الرغم مما اعتورها- لتكمل مسيرة الاهتمام بالأدب السوري رواية وشعراً وقصة، وخاصة إذا علمنا أن أدباء مصر وسورية اشتركوا معاً في رابطة للكتّاب، وعرف بعضهم بعضاً معرفة حقيقية قريبة، وانعقدت بينهم صداقات أدبية حميمة، وعلى الرغم مما حدث من انقلاب بعض الكتّاب على أصدقائهم بعد الانفصال إلا أن الأثر الإيجابي كان الأكبر والأكثر دواماً.
المهم أن حنا مينة انطلق عربياً قوياً، وروائياً يحمل هماً ورسالة، انعكسا في روايته هذه، كما انعكسا في مجمل رواياته التي سيصدرها عبر أكثر من خمسين عاماً من الرواية.
يذكر حنا مينة كيف كتب روايته الأولى المصابيح الزرق، وروايته الثانية الشراع والعاصفة ومن ثم توقف حتى صدرت روايته الربيع والخريف وهو في الغربة حتى عام 1967 حيث امتلأ وبدأ بالتفجر بين أعوام 76-88 أنجزت حوالى خمس عشرة رواية وستة كتب في الدراسة..) وهذا الكلام يتناول بوضوح ما يسمى لدى المبدع بمرحلة الكمون، فقد توقف عن الكتابة حوالى عشر سنوات يندم عليها أشد الندم، لكنه عندما وجد متسعاً من السكون إلى كوامنه تفجر دفعة واحدة ليكتب ما اعتمل في صدره، وما اختزنته ذاكرته، وقد أشار في غير موضع إلى أنه كان يكتب أكثر من عمل روائي في الوقت نفسه، وهذا ما أتاح له اختصار السنوات العشر التي قضاها في صمت وكمون.. وكان لكل رواية أصدرها مينة وقعها على القارئ والوسط الثقافي معاً، كما أن هذه المتابعة الحثيثة كرست مينة روائياً سورياً وعربياً، جعل الرواية وحكايتها هاجسه الذي أرقه حتى يفرغه على الورق.
في كتابه (القصة والدلالة الفكرية) يقدم حنا مينة رؤيته للأدب ودوره، ويبين بوضوح رأيه من التصنيفات، الواقعية، والواقعية الجديدة، ورأيه في الأيديولوجيات، ويتحدث بوضوح عن رأيه بالأدب المؤدلج الذي أساء للأيديولوجية، ولم يرتق إلى مرحلة الأدب.. وهذا الكتاب، إضافة إلى آراء حنا مينة المبثوثة في دراساته وكتبه وحواراته تعطي انطباعات عن دور الأيديولوجية في رواياته وأدبه، فهو استطاع أن يحمل أيديولوجيته في تضاعيف أدبه وشخصياته التي رسمها بإتقان، وذلك من خلال اختياراته لها ولانتماءاتها، ولحركة مسرحها الحياتي، فعبّر عن الشريحة والشرائح التي ينتمي إليها ويحمل همها، ولكن من دون أن يكون أدبه لافتة عريضة لما يمكن أن يكون عليه الأدب المؤدلج، وإن كان ثمة وضوح للأيديولوجية، فهو في روايته الربيع والخريف، التي كتبها في غربته في المجر بدا متأثراً بالتجربة الشيوعية الاشتراكية في أحد معاقلها، وما سوى ذلك كان حنا مينة مع البحر وعماله وقضاياهم وهمومهم وصراعاتهم النفسية العميقة.
يعتدّ حنا مينة بالكاتب صاحب الرؤية، وفي حديثه عن حسيب كيالي، يرى أن من سوء حظ كيالي، تشيخوف العرب على حد تعبيره، أنه لم يكتب نقداً أو دراسة واحدة، ولا شك بأن ما يراه مطعناً على غيره سيحاول تلافيه هو بالطرائق الممكنة والأساليب المتاحة، لذلك أصدر عدداً من الدراسات.
وفي دراسات حنا مينة المفردة نجد ملمحين:
* تناول الأدب الاشتراكي من دون غيره بالتحليل والدراسة والإجلال، كما فعل مع أدب ناظم حكمت، وهذا يشير إشارة واضحة إلى ينابيعه واتجاهه، نظراً للإعجاب الذي يكنه لناظم حكمت وتجربته في الأدب والحياة. ومما لا شك فيه أن حنا مينة أجاد في اختيار الشخصية المدروسة القائمة على تعزيز اتجاهه في الأدب وطريقة الحياة على السواء.
* تدوين تجربته الروائية وسيرته الذاتية أدبياً، ومن يقرأ ما كتبه حنا مينة في هواجس في التجربة الروائية والقصة والدلالة الفكرية يرى بوضوح أن مينة أراد أن يثبت تجربته ورؤيته في الرواية ودورها في الحياة، وذلك من خلال استعراضه لقضايا كثيرة: المفهوم عن العالم –معادلة الكاتب والقارئ- لمن يكتب القاص وكيف؟ لأي جيل يكتب القاص، وكيف؟ التجربة الخاصة في البيئة أولاً- مسؤولية القارئ في الفهم- أزمة القصة.. وعناوين أخرى كثيرة يتنقل فيها حنا مينة بين الحديث الذاتي الخاص، وبين التنظير للرواية وكتابتها، وكأنه بذلك يريد أن يعيد القارئ إلى الوعي الذي يغيب عنه في أثناء قراءة الرواية.
حظي حنا مينة بتكريم القيادة السياسية ومنح وسام الاستحقاق تقديراً لجهوده في الأدب والرواية، وتقديراً لريادته الروائية في سورية والوطن العربي، وهذا التكريم يمثل تكريماً للمبدعين السوريين عموماً، إضافة إلى ما فيه من تقدير لجهود حنا مينة في تأصيل الرواية العربية السورية، ونقلها إلى العالم العربي والخارج، وقد أسعفت الأيام الروائي الكبير بنقل أعماله إلى الشاشتين، فوصلت أفكاره إلى مختلف فئات المجتمع، وها هو يشهد في رحيله كلمات الشباب الذين أحبوه، وكلمات الشيوخ الذين عاصروه ليعود إلى أرض اللاذقية وفاء وبراً وأدباً وجسداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن