ثقافة وفن

انتقد الاستغلال والجشع واضطهاد المرأة وانتصر للمظلومين … حنا مينة.. شيخ الروائيين العرب والبحار الذي واجه البحر بعواصفه وأنوائه

| وائل العدس

ألقت شخصيات رسمية وأدبية وفنية نظرة الوداع على جثمان الراحل الروائي الكبير حنا مينة في مستشفى الفرنسي بدمشق قبل أن ينطلق موكب جثمانه إلى مسقط رأسه في مدينة اللاذقية، حيث أقيمت صلاة الجنازة في كنيسة مار ميخائيل وجبرائيل ثم ووري الثرى في المقبرة القديمة بالفاروس.
واصطف الحضور وفي مقدمتهم نائب رئيس الجمهورية الدكتورة نجاح العطار ووزيرا الإعلام عماد سارة والثقافة محمد الأحمد حول نعش الراحل وقام الأب إلياس زحلاوي بأداء الصلاة لروحه.
إذاً، رحل عن عالمنا الأديب والروائي السوري مينة عن عمر يناهز 94 عاماً، بعد معاناة طويلة مع المرض، وهو أبرز الروائيين في العالم العربي، حيث رصد عبر أكثر من أربعين رواية على مدى نصف قرن قضايا الناس، وانتقد فيها الاستغلال والجشع واضطهاد المرأة وتنبأ أن الرواية ستشغل المكانة الكبيرة لدى العرب وستصبح ديوانهم.
ساهم في تطوير الرواية العربية، وفي حوزته الكثير من الروايات والقصص التي تميزت بالواقعية الاجتماعية والصدق والمعاناة، كما قدم نموذجاً ناصعاً للمثقف العصامي المهموم بقضايا الثقافة والمثقفين إلى جانب انشغاله بالمهمشين من أبناء الطبقات الكادحة، الذين كانوا أبطالًا لأعماله الأدبية الخالدة.
كان التحدي السمة الأبرز في حياته، فهو البحار الذي واجه البحر بعواصفه وأنوائه ووقف في شبابه الباكر مقاوماً الاحتلال الفرنسي وتصدى للجهل والتخلف والاستغلال مختصراً في رواياته آلام المسحوقين والفقراء وانتصر دائماً للمظلومين.
تميز بأسلوبه المغرق في الواقعية في تصويره لأبطال رواياته الذين يختار معظمهم من حواري وأزقة مدينته اللاذقية من دون أن يعمد حتى إلى تغيير أسمائهم.

رائحة فريدة

قال وزير الثقافة في تصريح للإعلام: رحل حنا مينة بعد أن خلدته عشرات الأعمال العظيمة لمسنا عبرها أدبه الصادق والملتحم بالواقع وشغفه بالبحر الذي ظهر في معظم نتاجه الأدبي مصوراً البحارة وهم على متن سفنهم يصارعون الأمواج العاتية في دلالات عميقة، مشيراً إلى نضال الراحل الوطني ومشاركته بمقاومة الاحتلال الفرنسي منذ صباه.
وأضاف: «كان الراحل يقول إن مهنة الكتابة ليست سواراً من ذهب بل هي أقصر الطرق إلى التعاسة فجعلنا كلما أعدنا قراءة أعماله نكتشف فيها أبعاداً ومضامين أدبية جديدة ليظل خالداً بما تركه من فكر إنساني عظيم وبعوالمه المستنبطة من واقع يحمل رائحة فريدة.

رحلة شاقة

ولد مينة في اللاذقية عام 1924، وتعين على الطفل الذي جاء إلى الدنيا أن يهاجر مع عائلته من اللاذقية إلى مدينة السويدية في لواء إسكندرون، ثم هاجر معها إلى الإسكندرونة، ثم إلى الريف، وبعدها عودة إلى الإسكندرونه نفسها حيث عاش طفولته في حي المستنقع، ليدخل في السابعة من عمره المدرسة، وينال الابتدائية عام 1936، ويوقف دراسته. ذلك أنه لم يكن بالإمكان إرساله لمتابعة تعليمه فبالكاد كان لديه «صندل» ينتعله شتاء، على حين يمضي أشهر الصيف حافياً. فالأب كان حمالاً في المرفأ، وأحياناً بائعاً للحلوى، أو أجيراً في بستان، وكثيراً ما كان يترك عائلته ويرحل بحثاً عن عمل، لتبقى الأم تعاني مع أطفالها الخوف والجوع، ما اضطر حنا للعمل في سن مبكرة.
بعد أن أنهى الابتدائية في إسكندرونة، اشتغل في دكان حلاق، وفي ذلك الدكان تفتحت مواهبه، فاحترف كتابة الرسائل للجيران وكتابة العرائض للحكومة، لكونه الوحيد الذي يفك الحرف في الحي، هكذا كانت بدايته الأدبية المتواضعة جداً.
كانت أسرته تتلقى المساعدة والشفقة من الكنيسة، وقد تحدث عن طفولته في الإسكندرونه قائلاً: «طوال أربع سنوات كنت أقوم مع بعض أطفال المدرسة بالخدمة في الكنيسة، نطفئ الشموع، نحمل الأيقونات، وننام أحياناً واقفين، بكلمة، صلّيت بما فيه الكفاية، أنا مطمئن من هذه الناحية. وفي باحة المدرسة والكنيسة كان ثمة قبور يونانية قديمة، وعلى أحدها كان مجلسي في ساعات الضيق والغربة، والجوع في أحيان غير قليلة، على هذا القبر تعلمت أن أحلم بالمدينة الفاضلة قبل أن أعرف اسمها، وبالحب قبل أن أبلغ السن التي يحق فيها لمثلي أن يحب» وهكذا كان لحياته القاسية أثرها في رواياته تلك، وقد قال عنها: «كنت أعاني البطالة والغربة والفقر والجوع وأحسد الكلب لأن له مأوى».
كان والده رحالة من طراز خاص، لم ينفع ولم ينتفع برحلاته كلها، أراد الرحيل تلبية للمجهول، تاركاً العائلة أغلب الأحيان في الأرياف، للخوف والظلمة والجوع ويقول حنا: «لطالما تساءلت وراء أي هدف كان يسعى؟ لا جواب طبعاً، إنه بوهيمي بالفطرة».
نما حنا عليلاً، وقد عملت أمه وأخواته الثلاث خادمات، أما هو الصبي الوحيد الناحل فقد عمل أجيراً.
في عام 1938، تمت المؤامرة بين تركيا وفرنسا، وأعطي اللواء إلى تركيا، وفي عام 1939 حدثت هجرة الأرمن والعرب من اللواء. وذكر حنا أنه كان ابن ستة عشر ربيعاً عندما هرب في أيلول عام 1939 من إسكندرون إلى اللاذقية عن طريق كسب، ومن احتكاكه مع الأرمن في هذه الظروف كتب فيما بعد روايته «الفم الكرزي».
وكان حنا قد دخل المعترك السياسي الحزبي مبكراً منذ أن كان فتى في الثانية عشرة من عمره، وناضل ضد الانتداب الفرنسي، وعند وصوله اللاذقية عمل حمّالاً في المرفأ، ووجد أن العمل الحزبي في اللاذقية صعب، فشرع مع أصدقائه في تأسيس نقابات في المرفأ، وهكذا استوحى من هذه الحياة فيما بعد روايته «نهاية رجل شجاع».
كان حنا يبيع في الشوارع جريدة «صوت الشعب»، ويروي أنه كانت هناك صعوبة في توزيع الجريدة بسبب مقاومة الإقطاعيين.
بعد أن قاوم الاحتلال الفرنسي تطوع في البحرية، ثم أصبح بحاراً لمدة قصيرة على المراكب الشراعية التي تنتقل بين مرافئ المتوسط العربية، وعلى هذه المراكب، وخلال العواصف، عاين الموت بنظرات باردة ومن هنا كان ولعه بالبحر ثم الكتابة عنه.
بعد الإبحار على المراكب، غدا الرغيف خيالاً، وكان عليه سداً لجوع العائلة، أن يركض وراءه. فقد اضطر بادئ ذي بدء للعمل حمالاً في المرفأ، ثم حلاقاً في دكان صغير على باب ثكنة في مدينة اللاذقية.
وفي عام 1948 انتقل حنا إلى بيروت حيث أمضى بعض الأشهر قبل أن يستقر في دمشق، حيث بدأ نجمه يصعد تدريجياً مع روايته «المصابيح الزرق» وعمله في الصحافة في جريدة «الإنشاء» التي أصبح رئيساً لتحريرها.
تزوج من السيدة مريم التي لم تفارقه مطلقاً، وقد أنجبت له خمسة أولاد بينهم صبيان هما سليم وقد توفي في الخمسينيات في ظروف النضال والحرمان والشقاء، والآخر الممثل النجم سعد أصغر أولاده، وثلاث بنات سلوى وسوسن وأمل. لكن عمله في السياسة أدى به إلى الرحيل إلى بيروت مجدداً ثم إلى المجر، ويذكر حنا النوم تحت الجسور في سويسرا وأخيراً إقامته في الصين خمس سنوات، وعودته إلى الوطن عام 1967 فأمضى بضعة أشهر في اللاذقية ثم دمشق، حيث عمل في كتابة المسلسلات الإذاعية بالفصحى والعامية، قبل أن يعمل في وزارة الثقافة.
وقد أفاده العمل في البحر، في كتابة «الشراع والعاصفة»، والاختباء في الغابات أيام مطاردة الفرنسيين وفّر له مادة لكتابة «الياطر».
في إحدى قصصه (الكتابة على الأكياس) يصور حنا الظروف الصعبة التي ميزت طفولته، وكيف جعل منه سوء التغذية صبياً نحيلاً غير قادر على القيام بعمل جسدي شاق، وحين أحس بضرورة مساعدة عائلته المعدمة مادياً، ذهب إلى الميناء، حيث اكتشف عدم قدرته على رفع الأكياس، فشعر بالأسى. وحين برزت حاجة لكتابة بيانات بسيطة على الأكياس اختاره المعلم لأنه يتقن الكتابة.
ويذكر في القصة أنه حين التقى معلمه في دمشق بعد مرور سنين طويلة، وكان بصحبته صديق يعرف كليهما، قال ذلك الصديق للمعلم: إن حنا كاتب معروف اليوم، قال ذلك الرجل البسيط: نعم، أعرف ذلك. لقد بدأ الكتابة عندي، على الأكياس!

من أقواله

– أنا «كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين فالكفاح له فرحه، له سعادته، له لذّته القصوى، عندما تعرف أنك تمنح حياتك فداء لحياة الآخرين، هؤلاء الذين قد لا تعرف لبعضهم وجهاً، لكنك تؤمن في أعماقك، أن إنقاذهم من براثن الخوف والمرض والجوع والذل، جدير بأن يضحى في سبيله، ليس بالهناءة وحدها، بل بالمفاداة حتى الموت معها أيضاً. إن وعي الوجود عندي، ترافق مع تحويل التجربة إلى وعي، وكانت التجربة الأولى في حي (المستنقع) الذي نشأت فيه في اسكندرونة، مثل التجربة الأخيرة، حين أرحل عن هذه الدنيا، ومثل تجربة الكفاح ما بينهما، منذورة كلها لمنح الرؤية للناس، لمساعدتهم على الخلاص من حمأة الجهل، والسير بهم ومعهم نحو المعرفة، هذه التي هي الخطوة الأولى في المسيرة الكبرى نحو الغد الأفضل».
– مهنة الكاتب ليست سواراً من ذهب، بل هي أقصر طريق إلى التعاسة الكاملة. لا تفهموني خطأ، الحياة أعطتني، وبسخاء، يقال إنني أوسع الكتّاب العرب انتشاراً، مع نجيب محفوظ بعد نوبل، ومع نزار قباني وغزلياته التي أعطته أن يكون عمر بن أبي ربيعة القرن العشرين. يطالبونني، في الوقت الحاضر، بمحاولاتي الأدبية الأولى، التي تنفع الباحثين والنقاد والدارسين، لكنها، بالنسبة إلي، ورقة خريف أسقطت مصابيح زرق.
– إن البحر كان دائماً مصدر إلهامي، حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، وأسأل: هل قصدت ذلك متعمّداً؟ في الجواب أقول: في البدء لم أقصد شيئاً، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نُقشت وشماً على جلدي، إذا نادوا: يا بحر أجبت أنا! البحر أنا، فيه وُلدت، وفيه أرغب أن أموت.. تعرفون معنى أن يكون المرء بحّاراً؟
– إنه يتعمّد بماء اللجة لا بماء نهر الأردن، على طريقة يوحنا! أسألكم: أليس عجيباً، ونحن على شواطئ البحار، ألا نعرف البحر؟ ألا نكتب عنه؟ ألا نغامر والمغامرة احتجاج؟ أن يخلو أدبنا العربي، جديده والقديم، من صور هذا العالم الذي هو العالم، وما عداه، اليابسة، جزء منه! البحّار لا يصطاد من المقلاة! وكذلك لا يقعد على الشاطئ، بانتظار سمكة السردين التافهة. إنه أكبر، أكبر بكثير، وأنا هنا أتحدث عن البحّار لا عن فتى الميناء!
– الأدباء العرب، أكثرهم لم يكتبوا عن البحر لأنهم خافوا معاينة الموت في جبهة الموج الصاخب. لا أدّعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحّارة، هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، واحترفت البحر كبحّار على المراكب. كان ذلك في الماضي الشقي والماجد من حياتي، هذه المسيرة الطويلة كانت مشياً، وبأقدام حافية، في حقول من مسامير، دمي سال في مواقع خطواتي، أنظر الآن إلى الماضي، نظرة تأمل حيادية، فأرتعش. كيف، كيف؟
– أين، أين؟ هناك البحر وأنا على اليابسة! أمنيتي الدائمة أن تنتقل دمشق إلى البحر، أو ينتقل البحر إلى دمشق، أليس هذا حلماً جميلاً؟ السبب أنني مربوط بسلك خفي إلى الغوطة، ومشدود بقلادة ياسمين إلى ليالي دمشق الصيفية الفاتنة، وحارس مؤتمن على جبل قاسيون، ومغرم متيّم ببردى، لذلك أحب فيروز والشاميات.

الأوسع انتشاراً

نعى مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط أيقونة الأدب والسينما السورية حنا مينة، وجاء في بيان لرئيس المهرجان الأمير أباظة: ينعى مهرجان الإسكندرية أيقونة الأدب والسينما السورية الأديب الراحل الكبير حنا مينة الذي رحل عن دنيانا، وإدارة المهرجان وهي تنعى الفقيد الكبير فإنها تنعى أحد الآباء المؤسسين لفن الرواية في سورية والوطن العربي كما أن رواياته كان لها الدور الأكبر في نقل الرواية المكتوبة إلى شاشة السينما.
وقرر المهرجان في دورته الـ34 التي تُقام خلال الفترة من 3 إلى 8 تشرين الأول المقبل الاحتفاء بالراحل، وسيعرض خلاله الفيلم الوثائقي «الريس»، كما يعقد المهرجان ندوة حول أثر الأديب الراحل في الثقافة السورية ودوره في نقل الأدب المكتوب إلى شاشة السينما.

بدوره قال الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الشاعر والكاتب الإماراتي حبيب الصايغ في بيان صحفي إن الراحل الكبير حنا مينة كان مؤسساً لاتحاد الكتاب السوريين، كما لعب دوراً بارزاً في التمهيد لإنشاء الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وشارك بفعالية في الاجتماع التأسيسي الثاني الذي عُقد بمصيف بلودان بسورية عام 1956، وكرمه الاتحاد العام عام 2005، في الاحتفال الذي عقد بدمشق بمناسبة مرور 50 عاماً على إنشائه، كما منحه اتحاد كتاب مصر جائزة «نجيب محفوظ للكاتب العربي» في دورتها الأولى عام 2006. وأكد أن مينة أحد رواد القصة والرواية العربية، وأحد المؤسسين الكبار لهما بعد جيل نجيب محفوظ.
وأشار الصايغ إلى أن مينة ولد في أسرة فقيرة، وكانت معظم أعماله عن الصيادين والبحر، حيث نشأ في لواء الإسكندرون، قبل أن يستقر في طفولته بمدينة اللاذقية منذ عام 1939، على شاطئ البحر المتوسط، حيث لمس بنفسه متاعب الصيادين وكفاحهم من أجل حياة كريمة، فعكس تلك المعاناة في أعماله التي انحازت بشكل كبير وأساسي إلى الواقعية.
أما الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق إبراهيم الخياط فأشار إلى أن مينة هو الاسم الروائي الكبير والمناضل العريق وأوسع الأدباء العرب انتشاراً بكتبه مع محفوظ وقباني، مضيفاً: آلمنا الرحيل المرّ وأحزننا الغياب الصادم ولكننا مبتهجون بالخلود الذي سطّر حروفه، وعزاؤنا في الجيل الأدبي المبدع الواعد.. الذكر الطيّب والخالد لكاتب الكفاح والفرح الإنسانيين.

وصية.. لا عتبٌ ولا عتابٌ

قبل عشر سنوات، كتب الراحل وصيته وجاء فيها:
أنا حنا بن سليم حنا مينة، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية العام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألا أموت، بعد أن شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه لكل أجل كتاب.
لقد كنت سعيداً جداً في حياتي، فمنذ أبصرت عيناي النور، وأنا منذورٌ للشقاء، وفي قلب الشقاء حاربت الشقاء، وانتصرت عليه، وهذه نعمة الله، ومكافأة السماء، وإني لمن الشاكرين.
عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألا يُذاع خبر موتي في أي وسيلةٍ إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهلٌ، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء، أن يتحسروا علي عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية.
كل ما فعلته في حياتي معروفٌ، وهو أداء واجبي تجاه وطني وشعبي، وقد كرست كل كلماتي لأجل هدف واحد: نصرة الفقراء والبؤساء والمعذبين في الأرض، وبعد أن ناضلت بجسدي في سبيل هذا الهدف، وبدأت الكتابة في الأربعين من عمري، شرّعت قلمي لأجل الهدف ذاته، ولما أزل.
لا عتبٌ ولا عتابٌ، ولست ذاكرهما، هنا، إلا للضرورة، فقد اعتمدت عمري كله، لا على الحظ، بل على الساعد، فيدي وحدها، وبمفردها، صفّقت، وإني لأشكر هذه اليد، ففي الشكر تدوم النِعم.
أعتذر للجميع، أقرباء، أصدقاء، رفاق، قُرّاء، إذا طلبت منهم أن يدعوا نعشي، محمولاً من بيتي إلى عربة الموت، على أكتاف أربعة أشخاص مأجورين من دائرة دفن الموتى، وبعد إهالة التراب عليّ، في أي قبر مُتاح، ينفض الجميع أيديهم، ويعودون إلى بيوتهم، فقد انتهى الحفل، وأغلقت الدائرة.
لا حزنٌ، لا بكاءٌ، لا لباسٌ أسود، لا للتعزيات، بأي شكلٍ، ومن أي نوع، في البيت أو خارجه، ثمّ، وهذا هو الأهم، وأشدد: لا حفلة تأبين، فالذي سيقال بعد موتي، سمعته في حياتي، وهذه التأبين، وكما جرت العادات، منكرة، منفّرة، مسيئة إلي، استغيث بكم جميعاً، أن تريحوا عظامي منها.
كلُّ ما أملك، في دمشق واللاذقية، يتصرف به من يدّعون أنهم أهلي، ولهم الحرية في توزيع بعضه، على الفقراء، الأحباء الذين كنت منهم، وكانوا مني، وكنا على نسب هو الأغلى، الأثمن، الأكرم عندي.
زوجتي العزيزة مريم دميان سمعان، وصيتي عند من يصلّون لراحة نفسي، لها الحق، لو كانت لديها إمكانية دعي هذا الحق، أن تتصرف بكلّ إرثي، أما بيتي في اللاذقية، وكل ما فيه، فهو لها ومطوّب باسمها، فلا يباع إلا بعد عودتها إلى العدم الذي خرجت هي، وخرجت أنا، منه، ثم عدنا إليه.

واجب العزاء

بعد أن تلقت عائلة الراحل العزاء في اللاذقية، تنتقل إلى دمشق لتقام مراسم العزاء من السادسة وحتى التاسعة من مساء يومي الثلاثاء والأربعاء المقبلين 28 و29 آب، في قاعة كنيسة الصليب المقدس في حي القصاع.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن